ميدان التحرير أبواب الميدان الثمانية أخرجت مبارك من الجنة لكن الشعب لا زال خارجها مرّت تسعة أشهر على الثورة المصرية، ولم تحقق بعد إلا 2 بالمئة من مطالب الشعب، وفي عمق القاهرة لا حديث عن الثورة إلا يوما قبل الجمعة وآخر بعدها، عدا ذلك فصوت رأس المال قطع لسان الثورة بالميدان، لتحضر التجارة فيه كل أيام الأسبوع دون انقطاع، بينما يبقى الحديث عن أهدافها حكرا على مسوقي الكلام للفضائيات والقنوات الأجنبية، في حين يحيا المصريون أيامهم بحثا عن لقمة العيش تحت شعار "لا شيء تغيّر عدا رحيل مبارك عن الحكم". * ولا تنم هذه العبارة طبعا عن الرغبة في بقائه، بقدر ما تشير إلى اهتمام بالغ باستشعار التغيير الحقيقي، فالبطالة لا تزال تخيم على شباب مصر، عدا أولئك الذين ابتكروا لأنفسهم مهنا مؤقتة لا تأمين فيها ولا تثبيت. * بالعكس لقد بدأت الثورة تتراجع في مكاسبها منذ أن أعلن المجلس العسكري تمديد العمل بقانون الطوارئ حتى العام القادم، بعد أن استشعر الخطورة الخارجية على مصر بوصول ألسنة الثورة إلى العلم الأزرق وإنزاله مرتين من عليائه في قلب القاهرة، مما جعل المصريين يشعرون أن المجلس يحمي مصالح إسرائيل أكثر مما يحميهم، وهم يحتفظون له بذكريات جميلة لوقوف عناصره من الجيش إلى جانبهم في وجه الرئيس مبارك، وما أدراك ما مبارك وزبانيته! * * أرق الأفكار يطيل ليالي القاهرة * لا تحتاج أية مؤسسة في القاهرة إلى أي نظام مناوبة، فالسهر عادة في أهلها، والشوارع تأبى مفارقة المارين بها، حتى أنك قد تصادف شيئا من الاختناق في بعض الشوارع الكبرى، وما رسخ هذه العادة لدى الشعب المصري، هي الثورة الأخيرة، إذ خلقت أرقا عند البقية المتبقية ممن يطلّقون السهر ويأوون إلى المضاجع باكرا، فالخوف على مكاسب الثورة جعل قلب القاهرة "ميدان التحرير" يحافظ على نبضه ليل نهار، حتى أنه لمّا فرغ من المتظاهرين فيه، ملأه السياح بالتقاط صور تذكارية، تحاكي أياما هبطت فيها أغلب القيادات العليا إليه ترسم مع شباب 25 يناير وجها جديدا لمصر لم تكتمل ملامحه بعد. * * "السياحة الثورية" سيدة في الميدان * لعل أبرز ما يعترضك وأنت تسير في الشوارع المفضية إلى ميدان التحرير بأعدادها الثمانية، فبعد أن كان هادئا قبل الثورة، بعثت فيه روح تجارية عالية المستوى، تنافس المتظاهرين فيه على البقاء، وتوفر وطنية اختصرتها في ألوان العلم المصري في كل منتج من المنتجات، حتى الرغيف. * ولك أن تطلب من الباعة أي لباس يحمل ألوان هذا العلم، الذي لم يعكس اعتزاز التجار بالوطنية بقدر ما فجر قدرتهم على الابداع والتعايش مع الأحداث لضمان لقمة العيش الصعبة في هذا البلد، فمثلا يكون لزاما على سائق الطاكسي دفع جنيه أو اثنين لولد يتقدم من الزجاج الأمامي ويخط عليه بالألوان المائية والأصباغ العلم المصري ورمزا لثورة الخامس والعشرين يناير، بخفة واتقان عاليين، ناهيك عمن استثمروا في منتجات مختلفة تصب في نفس السياق، كعرض كتب المعارضين في عهد مبارك على الرصيف، لتزيح الأسماء المطبلة للنظام البائد، أمام التي بعثت من تحت الأنقاض لترسخ وعي شباب الثورة بالتمسك أكثر بمطالبهم، ككتب الاعلامي حمدي قنديل وابراهيم عيسى وغيرهم من المغضوب عليهم بالأمس القريب. * * جيل نشأ على الثورة لن يعبث بمستقبل مصر * ربما من ميزات أطفال مصر اليوم أنهم الجيل الثاني الذي نشأ على الثورة في مصر المستقلة، وشاهد بأم عينيه كيف تفتك الحرية ليس من مستعمر غاشم بل من مستبد بالحكم، لا يختلف عليه إلا أن الأول اعتدى على حرمة وطن، وأما الثاني فاعتدى على حرمة فكر، وحاول تجريده من كل مفاهيم الحرية. * فلم يعد أطفال مصر يرغبون منذ جانفي الفارط في مدن الألعاب ولا حدائق التسلية، فالعنوان لديهم بات معروفا، على غير عادة الصغار الذين إلى حيث قدناهم يطيعون، فصغار مصر اليوم يطلبون بالحرف الواحد من آبائهم "بابا أنا عايز أروح للشعب يريد"، بهذه العبارة تطالب زينب دوريا والدها، وفي كل مرة تذهب إلى هناك، تنفخ في رماد الثورة بترديد شعارات الثورة الصحيحة والمحوّرة مثل "الشعب يريد تغيير المادام!" ليرسخ في ذهنها أن التغيير هو المطلوب ولو على حساب مستقبل والدتها. * ولا يتوقف الكثير من الصغار عن الصراخ عند دخولهم الميدان وهم يرفعون الراية المصرية، وربما هذه ميزة جيل نشأ في جو يعلو فيه صوته دون أن يخمده سوطا من أجهزة الأمن، لذا فالتعويل على الجيل القادم من الحفاظ على مستقبل مصر كبير، خاصة وأنه سيجد تاريخا حديثا ملامحه إسقاط ديكتاتور، ومحاولة طرد كيان صهيوني من أرض الكنانة. * المحاكمات.. تمثيليات تملأ فراغ الأعمال الفنية بعد الثورة * أفرغت المحاكمات الأخيرة للرئيس مبارك وأبنائه وكذا أتباع صفوت الشريف من محتواها بنظر المصريين، وما عاد أحد يتوجه إلى المجمع الخامس، حيث تجرى تلك المحاكمات، بل إنهم صاروا يشككون في أن المشير الطنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة لن يسمح بإتمام محاكمة مبارك وما تلك الجلسات إلا ربح للوقت. * وتحولت هذه المحاكمات إلى مادة إعلامية تتهافت عليها الوكالات الأجنبية، بينما يكتفي المصريون في الداخل بسماع أخبارها من خلال جهاز الراديو أو التساؤل عنها آخر النهار، وهم موقنون أنها تأجلت أو غاب شاهد أو أنه يأتي الدفاع أو المدعين بمطالب أخرى، ففقدت الثقة تباعا من المستشار أحمد رفعت وزميله مصطفى حسن عبد الله في تسيير الجلسات وحتى النية في معاقبة الماثلين خلف القضبان، منهم من يمثل المرض، وكلهم يمثل البراءة ببراعة، منافسين أهل الفن في مواهبهم، ورغم أن المحللين يثقون في نزاهة القضاء المصري، ويعتبر اقحام تلك الرؤس الكبيرة قفص الاتهام بحد ذاته مكسب ومطلب من مطالب الثورة، إلا أن عامة الناس بالشارع لا يرى أنه استفاد بعد من كل هذه الاجراءات، ولم يستنشق حتى الآن هواء لا تشاركه فيه هذه الأسماء طالما تحافظ على لقب متهم وتبعد عنها الإدانة. * * ما الذي يطبخ بقيادة الأركان؟ * فقدت قيادة أركان الجيش الثقة المطلقة التي وضعها الشعب فيها، وزيّنها بنسبة 77 بالمئة من القبول بنتائج تعديل الدستور التي تتيح للمجلس تسيير هذه المرحلة إلى حين تحدي موعد الانتخابات البرلمانية متبوعة بالرئاسية، غير أن التململ في تحديد التواريخ، ونزول الجيش مرة أخرى إلى الشوارع لحماية مقر السفارة الاسرائيلية، بث شكا رهيبا في أنفس الشعب المصري، وجعله يتوجس من ممارساته، ومما يخطط له، وصارت الأغلبية تتخوّف من أن يستولي بالحكم ويديره إليه دون تسليمه إلى المؤسسة المدنية، في حين تطالب أصواتا أخرى بأن تخلف المؤسسة العسكرية نفسها على رأس الحكم، نظرا لاعتبارات المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد. * وبين النظرتين تتنامى طموحات المستعدين للترشح للرئاسيات في الوصول إلى هرم السلطة، نافين فرضية فرض التسلل إلى الصندوق الأبيض، وفرض رئيس من أصحاب البذلة الخضراء من الأيادي الغربية التي فقدت مصالحها في المنطقة، خصوصا مع ظهور التيار الاسلامي الممثل في الإخوان والسلفيون على الساحة السياسية لأول مرة منذ فترة في مصر. * ومع تعالي سقف مطالب شباب الثورة في الميدان وتجرئهم على الاقتراب من السفارة المصرية في أعقاب استشهاد خمسة جنود في سيناء، باتت المؤسسة العسكرية تتخوّف من الأزمات الدبلوماسية بينها وبين اسرائيل، حتى أنها وفّرت حماية عالية للسفير لدى هروبه مؤخرا إلى بلاده بعد الاعتداء على السفارة، وهذا سلوك خفّ من أسهم المجلس في قلوب القوميين في مصر وغيرهم أيضا، ولم ينتظر المجلس كثيرا بعد هذه الحادثة في التاسع من سبتمبر الجاري، بل سارع إلى مجموعة حوارات مغلقة دعا إليها أهم الشخصيات السياسية الفاعلة على الساحة، واعتذر من خلالها المشير الطنطاوي ورئيس أركان الجيش سامي عنان عن الحضور للشهادة في محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك. * وكان من بين الشخصيات التي دعيت إلى هذه الجلسات المغلقة، الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى الذي استدعي بعد تواجده بجنيف، ومرشح الرئاسيات محمد البرادعي الذي دخل مصر استجابة لهذا النداء، فضلا عن بعض الشخصيات الاقتصادية البارزة على الساحة، ولم تسرب أية معلومات عن أسباب هذه التشاورات، المفتوحة على كافة الاحتمالات، غير أنها تنم عن تعجّل في مواقف المجلس ونية في الاسراع بالمراحل القادمة من تسليم السلطة، في ظل ارتفاع سقف مطالب الثورة على ما يزيد عن قدرة النظام المصري عن نقض اتفاقياته الدولية، خشية أن يطالب الشارع بالمزيد من "المستحيل" أو يضطر الجيش وقوات الأمن لاستخدام القوة، ولو أنه استخدم البعض منها في حادث اقتحام السفارة توفي فيها ثلاثة من المتظاهرين. * ولا يعلم إلى اليوم ما إذا كانت الثورة تسير فعلا في الطريق الصحيح، أم أن تدخل المال الأمريكي والخليجي لتمويل المظاهرات المليونية كل جمعة وتمييعها سيسقط بها في هاوية الصراعات الداخلية على السلطة والتكالب الخارجي على ضمان الأنسب لمصالح أمريكا واسرائيل. *
* أبواب الميدان الثمانية أخرجت مبارك من الجنة ولم تدخل الشعب إليها * من اللطائف أن ميدان التحرير منفتح على ثمانية مداخل، كانت بمثابة الأبواب التي أخرجت مبارك من جنة الحكم في مصر، ولكل مدخل منها أهميته البالغة أيام الثورة، فأولها "مدخل قصر النيل"، وهو الذي كان يدخل منه القادمون من الجيزة ومن غرب القاهرة للتجمع في الميدان، وثانيها مدخل المتحف المصري، وهو الذي شهد موقعة الجمل في الثاني إلى الثالث من شهر فيفري المنقضي، ويعتبر من أشد المناطق دموية وعنفا في تاريخ الثورة المصرية، يليه المدخل الثالث المسمى القصر العيني، وعرف بدوره حصار مجلس الشعب والشورى ومحاولة اقتحام المتظاهرين وزارة الداخلية ومحاصرة مجلس الوزراء. * أما المدخل الرابع فهو الخاص بالجامعة الأمريكية، والذي أحسن النظام استغلاله لإرعاب المتظاهرين بزرع القناصة في طوابقه الست، واستهداف من شاءت منهم بكل أريحية، يليه مدخل شارع التحرير، ثم مدخل طلعت حرب، ومدخل البساتين وأخيرا مدخل شارع محمد محمود، وإن لم تكن لها حوادث معروفة لكل المتظاهرين، فقد سهّلت على الأقل لجمع من المصريين تكاثفهم وتوحدهم بالميدان، لإسقاط آخر فرعون حكم مصر في القرن الواحد والعشرين. * ولكن هاته الأبواب التي خلّصت المصريين من مبارك ولفظته خارجها لم تستطع إدخال الشعب المصري بعده جنة الحرية، رغم أنها على تعداد أبواب الجنة، فهل تشفع المظاهرات القادمة للمصريين ومجالس أمناء الثورة وغيرها من التنسيقيات لتعب شباب الثورة طيلة الفترة التي مضت، وهل سترحمهم من مغباّت التخبط في مرحلة انتقالية لا يعرف مرارتها إلا "الراسخون في العلم" والتجارب؟