الحلقة الخامسة إن ظاهرة الرقابة التي تحدثت عنها في المقالة السابقة لم تكن إلا عاملا سلبيا يوضح أن المثقف النقدي المستقل عن أجهزة الحكم كان يمثل التهديد في نظر السلطة في فترة حكم الرئيس الشاذلي بن جديد... * رغم المظاهر البراقة التي كان النظام إذ ذاك يوحي بها على أنه متسامح. وفي الواقع، فإن المثقفين أنفسهم لم يكونوا على موقف واحد بخصوص الرقابة المستشرية في كل مكان والبيروقراطية التي كانت تعطل كل شيء على مستوى الولايات والإدارات المركزية. عندما أسّست كتابة الدولة للثقافة والفنون الشعبية تنفّس المثقفون والفنّانون الصعداء وتفاءلوا بقدوم عهد جديد ظنّوا أنّ الحياة الثقافية والفنية ستزدهر في الجزائر. * في عام 1981 تركت مهنة التعليم وأصبحت صحافيا بمجلة "المجاهد الأسبوعي" التابعة إذ ذاك لحزب جبهة التحرير الوطني وكان مديرها العام محمد سي فضيل، الذي تميّز حقا بالأريحية والتكوين الثقافي الجاد وذلك لأن هذا الرجل أديب أيضا وكانت له مساهمات في الكتابة والإبداع القصصي وفضلا عن ذلك كان العمل معه سلسلا، علما أن ثمة حدودا لحرية التعبير في المجاهد الأسبوعي الذي كان اللسان المركزي لحزب جبهة التحرير الوطني. وفي العام نفسه (1981)، نظمت كتابة الدولة للثقافة والفنون الشعبية عددا من اللقاءات والحوارات المباشرة مع المعنيين بالثقافة والفن والفكر إدارة وإنتاجا. كانت هذه اللقاءات تحت إشراف كاتب الدولة للثقافة والفنون الشعبية، الدكتور محمد العربي ولد خليفة. ولقد شملت تلك اللقاءات التحسيسية كلاّ من الجزائر العاصمة، ووهران، وباتنة، وقسنطينة، وعنابة، وتلمسان، وورقلة. وهكذا انصبّت المناقشات التي دارت في أغلب تلك اللقاءات على المجال الإجرائي: (الهيكلة، التنظيم التقني، التنشيط الثقافي، الرقابة، حرية العمل الثقافي). فإن المناقشات لم تناقش الثقافة كمفهوم، أو كشكل من أشكال التعبير الطبقي، ولم تحدد عناصر الثقافة الوطنية من خلال التاريخ، كما أنها لم تشرح بالنقد والتحليل البنية الثقافية السائدة في المجتمع الجزائري، كما أنها لم تقيّم المضمون الثقافي والعقائدي للمنظومة التربوية الجزائرية بمختلف مراحلها ولم تتطرق بالشكل العميق إلى مسألة الازدواج اللغوي أو إلى السبل الكفيلة بإخراج اللغة الأمازيغية من مرحلة الشفوية إلى مرحلة الكتابة والتدوين وإلى مسألة جد حساسة والتي تتمثل في التيار الذي يشدد على استخدام الحرف اللاتيني لكتابة اللغة الأمازيغية. في إحدى اللقاءات، اعترف كاتب الدولة، ولد خليفة، بأن القيادة السياسية السابقة لم تضع الثقافة ضمن الأولويات. وقال حرفيا ما يلي: "لقد كنا زمنا خلا قد ركزنا العناية والاهتمام على وضع أسس الهيكل الاقتصادي وبناء المؤسسات المختلفة بعد ذلك أوضح بأن قطاع الثقافة قد مر: بظروف صعبة، نتيجة بعض القيم السلبية المتوارثة (منها) تلك السلبيات التي علقت بمجتمعنا، إذ نقول إن الكاتب والمفكر إنسان غير منتج، فهو يمسك ورقة وقلما لا يجديان نفعا إنه إنسان ثانوي لسنا بحاجة إليه بخلاف الإنسان الذي ينتج إنتاجا ماديا". في الوقت الذي كان يتحدث فيه الدكتور ولد خليفة، كان المثقفون في هذه الجلسات يشكون من شبح الرقابة المخيف ولكن هؤلاء كانوا منقسمين في الموقف مثلما قلت سابقا. وأسرد هنا تفاصيل مواقف هؤلاء لكي يدرك القراء أن بعضا من هؤلاء يصدرون مواقفهم من إرث السلطة الحاكمة وطقوسها المراوغة، بحيث أنهم صاروا ملوكا أكثر من الحكام الذين كانوا يحكمونهم. فالروائي الجزائري اللامع رشيد بوجدرة قال ما يلي في الندوة التي انعقدت بالإذاعة والتلفزيون الوطنية وهو كلام موثق في الكتاب الصادر عن كتابة الدولة للثقافة والفنون الشعبية تحت عنوان "حوار حول قضايا الثقافة". قال رشيد بوجدرة: "هناك مشكلة الرقابة، وقد قال عدد من الإخوان إنه لا توجد رقابة وأنا أقول توجد رقابة ليست آتية من السلطة الثورية أو الحكومة"، ثم أضاف ما يلي: "لكن هنالك رقابة أخطر وهي الرقابة الشخصية، إذ يوجد أشخاص معاقبين برفض إنتاجهم في جريدة ما ونحن نطالب ككتاب أن يزول ذلك". أما الشاعر والإعلامي الراحل عمر البرناوي، فقد قال نفس الكلام الذي قاله بوجدرة. * أما الدكتور عمار بلحسن فقد قال: "إن غياب الديمقراطية في الثقافة سمح لبعض العناصر، التي فشلت في الميدان الاجتماعي والاقتصادي والدراسي، بالدخول إلى أجهزة الدولة الثقافية وتشكيل حصار حول المثقفين والمنتجين الحقيقين". أما الطاهر وطار، الذي أشرت إليه في هذا المسلسل، فقد قال "الجدير بالتنويه، أن الدولة الجزائرية لم تمارس علينا أية رقابة وكل ما هناك أن بعضهم يخالفك الرأي فيطبّق عليك رقابته الخاصة". وهناك مداخلة أخرى موثقة في الكتاب المذكور أكد صاحبها بأن "تاريخ الجزائر لم يكتب بعد والسبب هو الرقابة". كما نرى، فإن الحصيلة توضح بأن الرقابة كانت قائمة مهما اختلفت أشكالها ومصادرها. ففي مرحلة الرئيس هواري بومدين، فقد فرضت الرقابة على كل الآراء التي عارضت أسلوب البيروقراطية التي أدت فيما بعد إلى الفشل الذريع لما كان يسمى بالثورة الزراعية. وفي عهد الشاذلي بن جديد، فرضت الرقابة على كل الذين أرادوا أن ينتقدوا أسلوب الانتخابات، وكذلك بيع الأراضي الزراعية المؤمّمة سابقا في المزاد العلني. إلى جانب ذلك، فإن قانون الإعلام في ذلك الوقت ضد إنشاء الإعلام الخاص وكان يحرم الكتابة في موضوعات معينة. فالطاهر وطار نفسه قد تم استدعاءه إلى وزارة الدفاع الوطني عندما نشر قصته: "الزنجية والضابط" وخضع هناك إلى المساءلة وطلب منه أن يوضّح نفسه فيما إذا كان النقد الذي تضمّنته قصته موجها إلى الجيش أم لا. وأستغرب تنكر وطار لرقابة الدولة ضده وضد الآخرين. ومن المستغرب أيضا أن يكون موقف بوجدرة مماثلا لموقف وطار. * وفي الحقيقة، فإن استنطاق الكتاب من طرف وزارة الدفاع، إذ ذاك، في الثمانينيات كان تقليدا معمولا به وأقدم الحقائق التالية التي تشهد على ما أقول. فالشاعر والدكتور عبد العالي رزاقي، استُدعي من طرف الأمن العسكري وحقق معه وطلب منه أن يوقع على محضر التحقيق ليعترف بأخطائه. علما أن الدكتور عبد العالي رزاقي إبن شهيد ضحى بدمه من أجل الجزائر وأن ابنه رزاقي عاش في فترة السبعينيات فقيرا في العاصمة، متحمّلا كل شيء وكان يقوم بنشاط ثقافي لفائدة بلاده وكان يكتب الشعر، ينتقد فيه الانحرافات التي كانت تسلط إذ ذاك ومنذ الاستقلال على مبادئ ثورة نوفمبر من طرف جوقة النظام الحاكم. وأذكر أيضا، أن السيد محمد زتيلي، مدير الثقافة الحالي والأمين الوطني للمالية بالاتحاد سابقا، قد تم التحقيق معه بمقر أمن ولاية قسنطينة. إلى جانب هذا فقد استدعي الكاتب والإعلامي والمتخصص في النقد الثقافي وإنتاج المسلسلات التلفزيونية حول الحضارة الإسلامية في إفريقيا وآسيا، الطاهر بن عيشة. فقد حقق معه أمن دائرة سطاوالي. وأضيف إلى السجل، أن الفنان الجزائري الموهوب لونيس آيت منقلات، قد أودع السجن بتهمة حيازة السلاح مرة وقد دبّرت له هذه التهمة تدبيرا محكما. علما أن هذا الفنان الجميل لا يستطيع أن يدوس على النملة. ويبدو واضحا أن أغنية الشاعر آيت منقلات التي عنوانها "اقتفيت أثر المجهول" تؤرّخ بواسطة الاستعارات والكنايات محنته تلك. إذ جاء فيها هذا المقطع: "عندما رأيت يداً تلبس الخلخال. تذكّرت السلاسل فقط. لا تسألوني عن السبب بل تعاطفوا أيّها الناس معي". * وفي عام 1975 أهان الرئيس الراحل هواري بومدين شاعر الحركة التحررية الوطنية مفدي زكريا صاحب صيحات سجن بربروس، حيث أودع هو ومعه المجاهدون من قبل الاستعمار الفرنسي ولقد كانت صيحاته من أجل تحرير هذه الأرض وشعبها. لقد وقع هذا الحادث المأساوي في حق صاحب "إلياذة الجزائر" أمامي وأمام الكاتب المصري المعروف يوسف السباعي والراحل الدكتور عبد الله الركيبي والشاعر محمد الأخضر السائحي الكبير في قاعة قصر الأمم، عندما انعقد مؤتمر الأدباء العرب في الجزائر. لقد كان لتلك الإهانة وقع أشبه بالكارثة وسوف أروي قصتها لاحقا.