محمد الهادي الحسني عُقد في الزاوية القاسمية في الهامل (بوسعادة) يومي 16 - 17 شوال 1427ه (8 - 9 نوفمبر 2006) ملتقى علمي لبحث موضوع »التربية الروحية في الطريقة الرحمانية«. وقد دُعي إليه جمع طيّب من العلماء والأساتذة من شتى أنحاء الجزائر الفسيحة، كما حضره جمهور غفير ضاقت به ساحة الزاوية ورحابها، مما أضفى على المكان جوا من البهجة والسرور، حيث أقبل الناس بعضهم على بعض يتعارفون، ويتحابّون، أو يجدّدون أواصر المودة، داعين بالخير لآل القاسمي الذين جعلهم الله سببا في هذا اللقاء الأخوي الإيماني. لقد أسعدني الأخ محمد المأمون القاسمي، شيح الزاوية القاسمية، عندما دعاني إلى حضور هذا الملتقى وشرّفني -شرّف الله مقامه-، إذ رفعني مكانا عليّا هناك من هو أولى به مني، وهو تسيير إحدى جلسات الملتقى، فشكرا جزيلا لأخي الفاضل محمد المأمون ولإخوانه القاسميين الكرام الذين سهروا على خدمة ضيوفهم، ووفّروا لهم ما استطاعوا إليه سبيلا من وسائل الراحة، مع ابتسامة على الثغور وطلاقة في الوجوه وانشراح في الصدور. تميّز الملتقى بالانضباط وحسن التنظيم بالرغم من كثرة الحضور، وقد ساعد على ذلك الجو الروحي الذي غمر قلوب الحاضرين، فالملتقى عُقد في التوسعة الجديدة لمسجد الزاوية، وهي توسعة جميلة دُشّنت بهذه المناسبة الجليلة. وللأخ محمد المأمون مشروع علمي طموح، هو توسعة المعهد القاسمي بل إنشاؤه نشأة أخرى، تتميّز بضخامة المباني وتستهدف جليل المعاني، ونسأل الله -العلي القدير- أن يمد في عمر الأخ المأمون - وأعمارنا جميعا- حتى نرى هذا المشروع الجليل وقد علت قبابه، وعُمّرت رحابه، وسطعت أنواره، وأينعت ثماره، وندعو بإلحاح من بسط الله لهم في الرزق أن يسارعوا إلى الإنفاق على هذا المشروع مما جعلهم الله مستخلفين فيه، فالمشروع وإن كان مأموني الفكرة، قاسمي التسمية، هاملي المكان، فهو لخير الجزائر والإسلام. لقد افترصْت فرصة هذا الملتقى فعلّقت في آخر الجلسة التي شُرّفت بتسييرها بكلمات، أُشهد الله الذي يعلم السر وأخفى أنني صَدَقت فيها الإخوة الحاضرين، حيث ذكرت نفسي وإياهم بوجوب نبذ المسلمين -خاصة نحن الجزائريين- لما بينهم من خلافات، أضعفت القوة، وأذهبت البأس، وأوهنت العزم، وصدّعت الكيان، وفرّقت الشمل، ومزّقت الصف، وشتّتت الكلمة، وقد شجعني على ذلك ما جاء في كلمة الأخ محمد المأمون الافتتاحية، وهو: »فما أحوجنا، وقد أحاطت بالمسلمين المؤامرات، واشتدت بهم الخطوب والملمات، أن توقظنا من غفلتنا، وتلم شتاتنا، وتوحّد أهدافنا، وتجمع على الرشد عزائمنا«. وقد ضربت للحاضرين مثلا على ما أهدف إليه بشخصي الضعيف وبإخواني القاسميين، فأنا محسوب على التيار الإصلاحي الباديسي، وهم معدودون في التيار الصوفي، ولكن ذلك لم يمنعنا من التحابب في الله، والتعاون على العمل لخير الإسلام ولفائدة الجزائر، وأنهيت تعليقي بكلمة طيبة للشيخ الدكتور محمد المبارك (1) -رحمه الله- وهي كلمة تدعو إلى التقريب بين طائفتين كبيرتين من المؤمنين، هما الطائفة السلفية والطائفة الصوفية، وتلك الكلمة هي: »تسليف الصوفية وتصويف السلفية«(2). لا يجهل أحد أن أمتنا الإسلامية يتنازعها تياران رئيسيان هما التيار الصوفي والتيار الإصلاحي- السلفي، ولا ينكر ذو حِجَى أن الأمة قد ذاقت الأمرّين بسبب خلافات هذين التيارين. إن بعض أسباب هذا الخلاف وجيه، هو أن بعض »المتصوفين« أتوا بأمور يرفضها الإسلام الصحيح، وينبذها العقل الحصيف، ويستبشعها الذوق السليم، فقام دعاة الإصلاح- السلفي، ودعاة الصوفية- السلفية يجادلون عن دين الله، وينفون عنه ما ليس منه، وما أدخل فيه من بدع، وما ألصق به من خرافات. لقد اعترف بعض الإخوة من أتباع الطرق الصوفية بما تسرّب إلى التصوّف الحق، وما عَلِق به من شوائب أذهبت بهاءه، وشوّهت جماله، وكدّرت صفاءه، ويبّست رواءه، وأغطشت سناءه. وكان وراء ذلك كله »متصوّفة« مبلغهم من العلم قليل، وحظهم من زكاء النفس كليل، فحوّلوا الصوفية عن هدفها النبيل، وصيّروها »سجلا تجاريا« يدرّ عليهم أموالا طائلة، بعد أن استرهبوا الناس بخرافات وأساطير. ومن الذين انتقدوا تصرفات بعض »المتصوفة« وشنّوا عليهم حملة صادقة، فضيلة الشيخ عبد القادر العثماني -حفظه الله وثبّت على الحق خطاه - وهو من أعلام التصوّف حاليا وشيخ زاوية طولڤة العثمانية وعضو المجلس الإسلامي الأعلى، فقد ألقى فضيلته محاضرة قيمة(3) في الزاوية القاسمية في الهامل في عام 1997، بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الشيخ محمد بن أبي القاسم، مؤسس الزاوية القاسمية، رحمه الله ورضي عنه. بعد أن تحدّث فضيلته عن مآثر رجال الطرق الصوفية الصالحين، ومكانتهم السامية في الخلق والعلم، وأعمالهم الجليلة في تربية الناس، وتعليمهم وإرشادهم، عرّج على الفاسد المفسد من تلك الطرق فقال: »أما التي فسدت وما أكثرها لما تتّصف به من منكرات وموبقات وشذود وانحرافات مسخها أبناؤها وليس غيرهم... وأكسبوا زواياهم شعارات مخزية، ومظاهر يستنكرها الشرع، وينفر منها الطبع، وتُبَغِّض الناس فيها وفي أهلها وفي طريقتها، ويستحيي الرجل المؤمن بالله أن يجد نفسه فيها... وقد أحاطت بهم وبزواياهم الكوارث، وحلت بهم الويلات بسبب الفساد وسوء التصرّف والسلوك... وخَلَت زواياهم من شعائر الدين، وعمرت بشعارات الشيطان... والذي سمّوا أنفسهم مشايخ لبؤر الفساد تلك هم أشر خَلْق الله، يخربون ويفسون أغلى ما في الوجود، الدين والعقل والأخلاق والشرف« (ص 9 - 10). ثم تساءل فضيلته لا فض فوه ولا تربت يداه فقال: »لماذا لا يعاقب أولئك الفجرة كما يعاقب تجار المخدرات واللصوص والمحتالون على الناس في سلب أموالهم بالخداع والاحتيال؟« وطلب حفظه الله »أن يفضح مثل أولئك الشيوخ، ويشهّر بهم وبمساويهم، إذ بدون مقاومتهم لا يقوم من أمر الزوايا الصالحة شيء، إن أولئك الضّالين المضلّين هم عقبة التقدم والنهوض بالزوايا الطاهرة العامرة، وهم مصيبة الدين وأعداؤه، ومحترفوه، وهم داء الطرقية السنية«. (ص 11 - 12) وقد عدّد فضيلته مثالب الشيوخ فقال رعاه الله : »ولأولئك المشايخ المزيّفين مثالب لا مناقب يجب ذكر نماذج منها وكشفها للتنديد بها، والوقاية منهم، والابتعاد عنهم وعن مستعمراتهم المسماة زوايا... فمنهم من حوّل زاويته إلى معرض شيطاني تُعرَض فيه أفعال شيطانية، يعرضها شياطين لشياطين... ومن المشايخ من جعل زاويته وسيلة لشهواته المركوزة في طبيعته، وشبكة لاصطياد أموال الأحياء والموتى باسم الدين، فهذا نص سافل يسرق السمعة الحسنة من مجتمع مغفّل... ومنهم من يتبتّل ويتوقّر ويتزمّت في غطرسة ورياء، وبقلب بليد، ويرى حظه وسعادته في تلك العظمة الكهنوتية... ومنهم من يتجرّأ على الإفتاء بلا علم ولا استحياء من الله، ولا يهمه تضليل الناس، ولا تحريف شريعة الله حفاظا على كرامته الزائفة المفقودة عند الله، ويأتي بتشريع مواز لشريعة الله، ولا يريد أن يتعلم أو يتفقّه ليكون شيخا مؤهلا للتعليم والإفتاء، وإنما يريد أن يكون شيخا متألها، ومشرعا مضلا، وهل بعد تحريف شريعة الله من ضلال؟« (ص 13 - 14، وانظر مثالب أخرى في صفحات 15 - 16 - 17). هذه المساوئ وغيرها هي التي تصدّى لها رجال الإصلاح السلفي، فقاموا يدافعون عن دين الله عقيدة وعبادة، وينصحون لإخوانهم المسلمين الذين انحرفوا عن سواء السبيل، وإن هذه المساوئ هي جعلت الشيخ الدكتور محمد المبارك يدعو إلى »تسليف الصوفية«. وأحب هنا أن أصحّح فكرة خاطئة، كثيرا ما سئلت عنها، وهي أن جمعية العلماء في عهد روادها حاربت التصوّف، والحقيقة هي أن الجمعية لم تحارب إلا هذا »التصوّف« المنحرف، المشوّه للدين، البدعي، وهو »التصوّف« الذي قال فيه الشيخ الفاضل عبد القادر العثماني المتصوف العالم ما لم يقله فيه أشدّ المصلحين عداوة للطرقية المنحرفة. والدليل على أن الجمعية لم تكن ضد التصوّف السني المقيد بالعلم الشرعي، هو بلبلها الصداح وحسَّانُها (4) المدّاح محمد العيد آل خليفة رحمه الله الذي كان صوفيا، ولكن تصوّفه السنّي لم يمنعه من أن ينحاز إلى الإصلاح السلفي، ويدعو إليه، وينصر دعاته، كما لم يمنع هذا التصوّف السنّي رجال الإصلاح من إكبار محمد العيد، وتقديرهم له، وإشادتهم به. وأما »السلفيون« إن كانت عقيدتهم قد سَلِمت من التشويه، وعبادتهم قد خلت من البدع، فإن كثيرا منهم قد فسدت أخلاقهم، وغلظت طباعهم، وقست قلوبهم، وخشنت معاملاتهم، وبذأت ألسنتهم (5)، وساءت بالناس ظنونهم (6)، وزكوا أنفسهم، وقد عرفت شخصا ينتسب إلى الإصلاح السلفي فوجدته مغترا بنفسه، عابدا هواه، حريصا على المظاهر، زاهدا في الجواهر، عاشقا التملق، محبا المتملقين، كارها الناصحين، حاسدا الناس ولو كانوا أمواتا على ماآتاهم الله من فضله، فلا يطيق سماع أسمائهم، ولا يحب رؤية صورهم. وهذه الصفات الذميمة الحقيرة هي التي جعلت الشيخ الدكتور محمد المبارك يدعو إلى »تصويف السلفية«، أي تليين هذه السلفية الغليظة برقائق الصوفية السلفية، وما أجمل كلمة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، التي رواها لي الأخ عبد المجيد بيرم، وهي: "لا نريد صوفية تشطح، ولا سلفية تنطح«. أجدّد شكري لأحبتي في الزاوية القاسمية على ما أتاحوه لإخوانهم المسلمين من لقاء طيب، وعلى إكرامهم لضيوفهم، وأدعو إخواني الجزائريين وكلهم مسلمون ولله الحمد والمنّة إلى كملة سواء، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، وأن نتخلّق بأخلاق ذي الخلق العظيم - صلى الله عليه وسلم فهو المثل الأعلى والنموذج الأغلى في العقيدة، والعبادة، والسلوك الطيب، والقول الحسن. »إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب«. الهوامش: 1) محمد المبارك، عالم جزائري، أصله من دلّس، ولد في سوريا عام 1912، تخرج من السوربون، كان عميدا لكلية الشريعة بجامعة دمشق، وتولّى الوزارة في سوريا (1949 1952)، رأس قسم الشريعة في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وعين مستشارا بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، توفي في المدينة المنورة في سنة 1981، له تآليف قيمة (انظر عنه: مجلة الأمة القطرية، ع 18. السنة 2. أفريل 1982. ص 83) 2) أورد هذا القول الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه: »في الطريق إلى الله: الربانية والعلم«. دار النفائس ص 24 3) طبعت هذه المحاضرة في »دار الهدى« تحت عنوان: »الزوايا في الجزائر: عرض وتحليل«، وقد أعدّها للنشر وقدّم لها الأستاذ عبد الحليم صيد. 4) أطلق على الشاعر محمد العيد آل خليفة لقب »حسّان الحركة الإصلاحية« تشبيها له بالشاعر حسّان بن ثابت -رضي الله عنه- والمداح -هنا- بالمعنى النبيل الشريف. 5) بلغني أن أحد الإخوة »السلفيين« في المشرق ألف كتيبا، انتقد فيه الشيخ يوسف القرضاوي ورد على بعض آرائه، وسمّى كتيبه: »الرد الكاوي، على الكلب العاوي، المسمى القرضاوي«. فإذا كان من حق هذا الأخ - بل من واجبه- أن يرد على ما يراه خطأ عند القرضاوي أو غيره، فإنه ليس من المروءة أن يوصف عالم مسلم شهد له المسلمون بالبلاء الحسن في الدفاع عن الإسلام بالكلب العاوي، وهَبْ أن القرضاوي أخطأ -وكل بني آدم خطاء- فهل يجيز خطأه أن يوصف بذلك الوصف القبيح. وأين نضع قوله سبحانه وتعالى: »وقولوا للناس حسنا« ؟ وأين نضع قول الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام. »ما بال أقوام يفعلون كذا. أو يقولون كذا؟«. 6) أُخْبرت أن إحدى الأخوات »السلفيات« بمدينة الجزائر ألّفت رسالة تطعن فيها في عقيدة الإمام عبد الحميد بن باديس. كما جاء شخص -يتمظهر بمظاهر »سلفية«- إلى نادي الترقي بمدينة الجزائر، ليستفسر عن عقيدة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وقد بدا من كلامه أنه يشكّك في صحة عقيدة الشيخ ابن باديس وسلامتها وما هذا كله إلا من الغرور وحب الظهور. ولو كان هؤلاء على شيء لعلموا أن ما أصاب ابن باديس من سوء، من القريب ومن الغريب، لم يكن إلا بسبب دفاعه المستميت عن العقيدة السليمة، والسنة الصحيحة، والسلفية الحقيقية المنيرة.