محمد الهادي الحسني نقرأ ونسمع ونرى في المدة الأخيرة أن فرنسا تتلهّف وتسعى -سرا وعلانية- لعقد معاهدة صداقة مع الجزائر. لقد عجب أولو العلم من أمر هذه الدولة الفرنسية في سعيها المحموم لعقد معاهدة صداقة مع شعب يصفه أكثر كبرائها وساستها، ومفكريها، ورجال دينها، وضباطها وصحافييها، وحتى صعاليكها بأنه »بيكو«، و»صال راس«، و»عرق غير قابل للتربية«(1)، ويؤمنون بأنه لم يؤسِّس -عبر التاريخ- دولة، ولم ينشئ حضارة، ولم يكن أمة(2).. فلماذا تسعى فرنسا لعقد معاهدة صداقة مع شعب تصفه بهذه الأوصاف القبيحة، وتُنزله هذه المنزلة الرذيلة؟، خاصة ونحن نؤمن ونرى أن هذه الآراء السخيفة لا يمكن أن تزول من عقول الفرنسيين ونفسيتهم المعقّدة ولو ولج الجمل في سمِّ الخياط، أما ما نسمعه منهم -أحيانا- من تملّقٍ لنا، وتودُّدٍ إلينا، فهو من باب "يرضونكم بأفواههم، وتأبى قلوبهم". إن فرنسا لا تريد من وراء هذه الصداقة إلا تبييض أعمالها الإجرامية في الجزائر، كما يسعى اللصوص إلى تبييض الأموال التي سرقوها، ولا تبغي من ورائها إلا إحكام قبضتها على الجزائر التي لم تحس فرنسا -عبر تاريخها- بحرقة، كما أحسّت بحرقة خسارتها لها، ولم تشعر بمرارة كمرارة هزيمتها فيها. ألم يقل المجرم الفرنسي الصليبي شارل لافيجري: »إن فقدان الجزائر يعني أكثر من عشر هزائم لفرنسا؟« ألم يقل جان لوفاشي (أحد قناصلة فرنسا في الجزائر وهو من رجال الدين): »لو فتح لي طريق السماء من جهة، وسمح لي بسلوكها، وطريق الجزائر من جهة ثانية لفضّلت الطريق الثاني؟«، لو كانت فرنسا صادقة في سعيها لعقد معاهدة صداقة مع الجزائر لاعتذرت لها رسميا على ما ارتكبته في حقها من جرائم(3)، لم يسجل التاريخ- وما أظنه سيسجل- أبشع منها، ولسدّدت لها القروض التي اقترضتها منها في ساعة عسرتها، ولأعادت لها »كنز القصبة« الذي اغتصبته عند احتلالها لها، ولأرجعت لها أرشيفها الذي سرقته، ولتوقّفت عن مؤامراتها ومخططاتها الخبيثة لشق صف شعبها، وتمزيق وحدتها. قد تستطيع فرنسا -بشتى الوسائل والأساليب التي نعرفها- عقد معاهدة صداقة، بل »أخوة« مع بعض »الجزائريين«، ولكنها لن تحصل على صداقة الجزائريين الأحرار، ولن تنال ثقتهم، ولن تحوز تقديرهم واحترامهم، وقد سبق لبعض أجدادنا أن قالوا: »إنه لن يستمع إلى كلام فرنسا سوى الذي ليس له عقل«(4). إذا كانت المنافع المادية هي التي تحكم العلائق بين الدول، فما هي المنفعة التي ستنالها الجزائر بمعاهدة صداقة مع فرنسا؟ قد تكون هناك بعض المنافع، ولكنني أجزم أن هذه المنافع ستحصل الجزائر على أفضل منها، وربما بثمن أقل، مع دول أخرى غير فرنسا. إن التاريخ لم يسجّل أن الجزائر احتاجت إلى فرنسا، ولم يذكر أن فرنسا أسْلفت عملا طيبا للجزائر، ولكنه سجل أن فرنسا هي التي احتاجت إلى الجزائر، وشهد أن الجزائر كانت في علائقها مع فرنسا نبيلة في سلوكها، شريفة في موافقها، كريمة في بذلها، سخية في عطائها، حتى شاعت في أوروبا مقولة هي: »لو لم توجد الجزائر فإن فرنسا كانت ستعمل على إنشائها ولو أدّى ذلك إلى دفع وزنها ذهبا«(5). إن أقدم علاقة بين الجزائر منذ انضمامها إلى الخلافة العثمانية وبين دولة أوربية هي علاقتها مع فرنسا، حيث استقبل الملك الفرنسي فرانسوا الأول -مرتين- مبعوثين من قبل خير الدين بربروس، وذلك في سنتي 1532 و1533، وفي سنة 1534 عُقدت المعاهدة الثلاثية (Le traité tripartite) بين كل من ممثل السلطان العثماني سليمان القانوني، وممثلي خير الدين بربروس- حاكم الجزائر- والملك فرانسوا الأول. لقد كانت فرنسا هي المستفيد الأكبر من علاقتها مع الجزائر، وقد تمثّلت تلك الاستفادة من استنجاد فرنسا عدة مرات بالجزائر لتنقذها مما أحاط بها من الأخطار التي هدّدت وجودها، ولتُنجيها من المهالك التي كادت تقضي على كيانها، من ذلك أن الملك الفرنسي فرانسوا الأول أحسّ في سنة 1543 أنه مهدّد من الإمبراطور شارلكان (❊) والملك الإنجليزي هنري الثامن، وأدرك فرانسوا الأول أنه لا مُنجي له من هذا الخطر الداهم إلا الجزائر، فأسرع إلى طلب نجدتها، راجيا منها حمايته، متوسلا إليها أن تنفذه؛ فأغاثته الجزائر، حيث "وصل خير الدين إلى مرسيليا رفقة أسطول يتكون من 110 سفينة حربية"، وذلك في 5 جويلية 1543، فنكص الإمبراطور شارلكان والملك هنري الثامن على أعقابهما، وقد شهد المؤرخ الفرنسي هنري ڤارو (H.Garrot) في كتابه "تاريخ الجزائر العام" أنه "بفضل تلك العلاقات أنقذ فرانسوا الأول عرشه، وحفظ من الخراب شعبه". وتعرّضت فرنسا للخطر مرة ثانية في عهد ملكها هنري الثاني، بعدما شنّ عليها الحرب الملك الإسباني فيليب الثاني. فلما عجز الملك الفرنسي عن الدفاع عن بلاده تأسّى بوالده - فرانسوا الأول- وولّى وجهه شطر الجزائر مستنجدا ومستغيثا، وأرسل إليها الفارس دالبيس (Le chevalier d'Albisse)، راجيا منها أن تكفّ عنه بأس الإسبان، ولما استبطأ الملك الفرنسي نجدة الجزائر له أرسل إليها مبعوثا آخر هو رئيس دير كاپوا (Capua) يستعجل نجدتها، فما كان من صالح رايس- وهو يستمع إلى توسّلات الملك الفرنسي وصرخاته- إلا أن جهّز أربعين سفينة وتوجّه تلقاء إسبانيا، فاحتل قسما من جزيرة مَيُورْقة في جوان 1553، فاضطرت إسبانيا إلى الكف عن تهديد فرنسا التي تنفّست الصعداء وذهب عنها الروع. ولم يستطع المؤرخ الفرنسي الآنف الذكر أن ينكر هذه المكرمةالجزائرية، فاعترف بأن التدخل الجزائري "حفظ فرنسا من الغزو الإسباني والتمزّق". واستمرأت فرنسا دفاع الجزائر عنها، وحمايتها لها، فكان كلما حزَبَتْها حوازب، وأضنتها متاعب، وحلّت بها مصائب، إستغاثت بالجزائر لتصرف عنها السوء، وتطرد عنها الأعداء، وذلك ما فعله الملك الفرنسي هنري الرابع الذي استنصر الباشا الخضر "طالبا منه مساعدته على تحرير مرسيليا من العصبة المقدسة"، وذلك - أيضا- ما فعله الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، مفخرة الفرنسيين وأعزّ ملوكهم، حتى سموه "الملك الشمس" (Le roi- soleil)، حيث أرسل إلى الداي شعبان يرجوه شنّ الحرب على هولندا وإنجلترا المتربصتين به وبدولته، وهذا ما أكّده المؤرخ الفرسني ليون ڤليبير (Leon Galibert). وبعدما قامت الثورة الفرنسية، تعرّضت فرنسا إلى أزمة خانقة، حيث ضربت عليها الدول الأوروبية حصارا شديدا، مما أوقع فرنسا في مجاعة وعجز مالي، حسب ما اعترف به مؤرخوها، ولم تجد فرنسا الكَنُود من تستنجد به للتخفيف من معاناتها غير الجزائر، التي بادرت لنجدتها بعدة وسائل، منها: 1) تزويد فرنسا بالمواد الغذائية (زيوت، قديد، قمح) 2) التدخل العسكري ضد بعض الدول الأوربية (لحماية ملاحتنا في البحر المتوسط«، كما يقول المؤرخ الفرنسي بلانطي ( Plantet). 3) إقراض الدول الفرنسية مبالغ مالية بعضها بدون فوائد بشهادة المؤرخين دوڤرامون وكاط، وما تزال هذه الديون في ذمّة فرنسا إلى اليوم، وسيأتي يوم وما ذلك على الله بعزيز نسترجع فيه هذه الديون بالتي هي أحسن أو بالتي هي أخشن. 4) إعفاء القناصل الفرنسيين من تقديم الهدايا للداي تخفيفا عن فرنسا. 5) تسليم جوازات سفر جزائرية للسفن الفرنسية لكي لا تستولي عليها سفن الدول الأوربية. وقد تعرّضت الجزائر لضغوط بعض الدول الأوربية لكي توقف مساعداتها لفرنسا، حيث جاء في تقرير للقنصل الفرنسي في الجزائر إلى حكومته: »ولقد علمت وملئي السخط الشديد أن الإنجليز قد تجاسروا إلى حد الطلب من الداي بأن يمنع عنا كل إسعاف، ليجعلونا نموت جوعا«. لقد اعترفت فرنسا آنذاك بمواقف الجزائر النبيلة، وقدّرتها حق قدرها، وشكرتها »على التسهيلات التي قدّمتها في عدة مناسبات لجيشنا«، وأكّدت فرنسا »أن الجمهورية الفرنسية لسوف نتذكر دوما هذه المساعدات التي تلقتها من أصدقائها وحلفائها في هذه الظروف العصيبة« و»أن الظروف لَتُضاعف من قيمة موقفه هذا (أي الداي) معنا عشر مرات« (6) ما كاد الفرنسيون يتغلبون على ضائقتهم المالية، ويخرجون من أزمتهم الاقتصادية، ويسترجعون قوتهم العسكرية، وكل ذلك بفضل المساعدات الجزائرية حتى تنكّروا لمعروفنا، و»جحدوا فضلنا الجميل« وجاءونا كالجراد المنتشر يهلكون زرعنا، وكالوباء ليستأصلونا، وكالسيل العرم يخربون عمراننا، فكانوا كما قال فيهم شاعرنا مفدي زكرياء: فأبطرهم قمحنا الذهبي *** وكم تُبطر الصدقات اللئاما إن تجربتنا الطويلة المريرة مع فرنسا توجب على كل جزائري حرٍ أن يعمل على تقليص علاقتنا مع فرنسا إلى أدنى حد، لأنها كانت دائما تجازي خيرنا بالشر، وتقابل إحساننا بالسوء، وإن حدث ووُقّعت معها معاهدة صداقة فلن يوقعها إلا من وصفهم مفدي زكرياء بقوله: ولازال فينا لمستعمرينا *** عيون وإن أسلمونا الترابا وعَنَاهم بقوله الآخر: هُمُو في البلاد شهادة زور *** فويل للجزائر من كيد حَرْكي وإنني لعلى يقين أن هذه المعاهدة لن توقع ما دام فينا مجاهدون أحرار لم يبدّلوا تبديلا، وما دام فينا أبناء شهداء أمناء على تراث آبائهم، وما دمنا جميعا أوفياء لأسلافنا الأمجاد. الهوامش: 1) صاحب هذه المقولة هو الجاهل الفرنسي بيير مورلان 2) زعم موريس توريز زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي أنه ب »فضل« فرنسا صارت الجزائر »أمة في طور التكوين«. 3) قال نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية الفرني، في زيارته الأخيرة للجزائر ( 13 - 14 / 11 / 2006) مبررا عدم اعتذار الفرنسيين عن جرائهم في الجزائر: »لقد قلت للوزير الأول بلخادم إنه من غير الممكن أن نطلب من الأبناء تقديم اعتذار عما ارتكبه آباؤهم«. (الشروق اليوم ع 1842 بتاريخ 15 / 11 / 2006. ص 3). إن هذا القول يدل على كذب صُراح من صنع فرنسي، والدليل على ذلك هو أن فرنسا تطلب حاليا من الأتراك أن يعترفوا ب »جرائمهم« في حق الأرض، وأن يعتذروا إليهم، وقد سنّ البرلمان الفرنسي مؤخرا قانونا لمعاقبة كل من يشكك في تلك »الجرائم« ولنسأل سي نيكولا: لماذا اعترف الفرنسيون بما ارتكبه آباؤهم من تجاوزات في حق اليهود في أثناء ما يسمى عندهم حكومة فيشي تحت قيادة الماريشال بيتان؟ ولنسأل سي نيكولا مرة أخرى: لماذا اعتذر الألمان لليهود، ولماذا اعتذر اليابان للكوريين وللصينيين بالرغم من أن ألمانيا واليابان »عظم واهم من فرنسا، وجرائمهم أقل من جرائم فرنسا؟، أما الأعجب من العجب فهو أن ساركوزي يؤمن بالمسيحية، وهي تحمّل البشرية كلها خطيئة آدم عليه السلام، ألا إنه من إفكه لمحجوج. 4) من رسالة وجّهها بعض أسلافنا إلى السلطات الفرنسية، ونشرتها جريدة المبشر في 15 / 4 / 1849، انظر صالح فركوس، تاريخ الجزائر من ما قبل التاريخ إلى غاية الاستقلال. ص 267. 5) جمال قنان: العلاقات الفرنسية الجزائرية، ص 20، وهو ينقل عن تقرير فرنسي. شارلكان، أو شارل الخامس، أكبر إمبراطور عرفته أوربا في التاريخ الحديث، وكانت إمبراطورية تشمل جزءا كبيرا من وسط أوربا، وغربها (هولاندا نصف إيطاليا سردينيا صقلية شمال فرنسا، بلجيكا، إسبانيا، الجزء الأكبر من أمريكيا اللاتينية) وقد ذاق مرارة هزيمة ماحقة في الجزائر في أكتوبر 1541. 6) عن مساعدات الجزائرلفرنسا أنظر: مولود قاسم نايت بلقاسم: »شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830«، وأقترح على الأخ كمال بوشامة المسؤول الأول عن سنة »الجزائر عاصمة الثقافة العربية« أن يبرمج هذا الكتاب القيّم في برنامج النشر الخاص بهذه المناسبة.