كانت المقارنة بين أحداث أكتوبر 1988 والاحتجاجات التي اندلعت الأسبوع الماضي حاضرة من اللحظة الأولى، وقد أعادت التصرفات العنيفة للشباب المتظاهر طرح الأسئلة حول غياب الإطار التنظيمي الذي يمكن من خلاله طرح المطالب الاجتماعية بشكل منهجي وفعال يمكن أن يفضي إلى تحقيق مكاسب. أكثر من عقدين من التعددية والشارع لا يزال خارج السيطرة، فالأحزاب السياسية والنقابات أثبتت عجزها عن التأثير في الرأي العام وتوجيهه نحو تحقيق مطالبه الاجتماعية أوالسياسية بالطرق المتعارف عليها في كل الأنظمة الديمقراطية في العالم، وقد جاءت الاحتجاجات الأخيرة بطابعها العنيف لتثبت مرة أخرى فشلا كبيرا للأحزاب على مستويين أساسيين؛ الأول يتصل بتوقع حركة الشارع وفهم مطالبه والاقتراب من حقيقة الوضع الذي يعيشه، والثاني يخص القدرة على التأثير في الأحداث بعد وقوعها.
مباشرة بعد الأحداث بدأت الأحزاب السياسية في إصدار مواقفها من خلال بيانات، وقد كانت هذه البيانات في أغلبها غارقة في العموميات لا تتوافق مع حجم الأحداث، حيث دارت مجمل هذه البيانات حول التذكير بما تدعي الأحزاب أنها أطلقته من تحذيرات في وقت سابق من احتمالات الانفجار الاجتماعي بسبب البطالة وتدهور القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار، غير أن تلك البيانات لم تكن كافية لتفسير ما جرى ولا قادرة على تقديم البدائل والاقتراحات التي يمكن أن تجعل الاحتجاج مجديا أو أن تطالب الحكومة باتخاذ القرارات الكفيلة بالحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وإطفاء الغضب الشعبي. ككل مرة بدت الأحزاب وكأنها تتبع الشارع في مفارقة غريبة، فبدل توجيه الرأي العام وتبني المطالب بأساليب منظمة، تحولت الأحزاب السياسية إلى مجرد تابع لفلول المحتجين الذين كانوا في حالة كثيرة مجرد مشاغبين تسلل إلى صفوفهم كثير من اللصوص فحولوا العملية برمتها إلى نهب للممتلكات العامة والخاصة، فقد طال الخراب أصحاب المصانع الذين تكبدوا خسائر بمليارات الدينارات، ولم يستثن صغار التجار وأصحاب المحلات الذين دمرت مصادر أرزاقهم، وتم العبث بالملفات الإدارية في المدارس والثانويات والإدارات العمومية دون أي مبرر، بل إن الاحتجاجات اقتصرت على تحركات مشبوهة لمنحرفين كانوا يختارون أهدافهم ويهاجمون ليلا في أغرب ظاهرة احتجاجية غير مسبوقة. إلى حد الآن لم يتم تسجيل أي مسيرة منظمة في أي جهة من البلاد، ولم يتم رفع أي شعارات واضحة، لكن في كل مكان كان اللصوص يحطمون وينهبون دون تمييز بين ما هو عام وخاص، ومع هذا لم يتردد زعماء الأحزاب السياسية في تبني هذه الحركة كما فعل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الذي تحدث عن تحول الشارع إلى الخيار الوحيد أمام المواطنين، وهذه مغالطة كبرى، فاللجوء إلى هذه الأساليب يعكس فشل أحزاب المعارضة أولا، ولعل سعيد سعدي اهتم بنقل المعلومات للسفير الأمريكي وطلب التدخل الأجنبي لتغيير النظام في الجزائر أكثر من اهتمامه بتنظيم الشارع وتأطير حركة المواطنين، بل إنه لم يفعل أي شيء منذ الانتخابات الرئاسية التي جرت في سنة 2004 من أجل الاحتكاك بالمواطنين والاقتراب من همومهم. الفراغ الذي تشهده الساحة السياسية الوطنية، وانشغال أحزاب المعارضة بخطاب سياسي فارغ يقوم على توجيه الشتائم للسلطة وتحميلها مسؤولية كل الشرور جعل الفاعلين السياسيين ينقطعون عن حقائق المجتمع وعزلهم بشكل شبه كامل عن الحقائق القائمة على الأرض، ولعل التمعن في فئة الشباب الذي مارس عمليات التخريب والنهب يدفع إلى الاستنتاج بأن هذه الشريحة من الشباب في معظمها ولدت في زمن التعددية أو قبله بقليل، وقد فتح هؤلاء أعينهم على واقع سياسي مرير يطبعه العجز المزمن لطبقة سياسية فاشلة تفضل عمل الصالونات والنضال بالبيانات والتصريحات الصحفية أكثر من العمل الميداني، وخلال سنوات نشأت تلك الفئة في فراغ سياسي وفي ظل عجز كامل للجمعيات التي تعد بالآلاف لكنها تبحث عن تحقيق المنافع بدل تقديم الخدمة للمجتمع. من هنا يبدو الطابع العنيف للاحتجاجات وانحرافها لتتحول إلى أعمال نهب وسرقة، دليل فشل الطبقة السياسية في الجزائر، وهو ما يؤكد أن أكثر من عشرين سنة من التعددية السياسية لم تكن كافية لترسيخ ثقافة ديمقراطية في المجتمع، ولم تكن كافية أيضا لتطوير أساليب سلمية في التفاوض الاجتماعي تجعل المجتمع يتجه إلى اعتماد أساليب أكثر تحضرا في حل مشاكله، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يجب رفعه في المرحلة القادمة.أخ