انهالت الأخبار الواردة من مصر على رأس واشنطن التي فوجئت أكثر من القاهرة نفسها بالوضع الميداني على الأرض منذ بدء أيام الغضب قبل حوالي أسبوع. مفاجأة جعلت أمريكا تغيّر مواقفها تباعاً، لتصل أمس إلى الحديث عن تغيير النظام في مصر. «لا نريد أيّ انتقال للسلطة لا يؤدي إلى الديمقراطية. نريد أن نرى تحوّلاً منظّماً لا يترك فراغاً يستغلّه أحد». هكذا أنهت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التكهنات حول مصير النظام المصري والرئيس حسني مبارك. فللمرة الأولى، ينطق مسؤول أمريكي رفيع المستوى بالعبارات السحرية: انتقال وتحوّل للسلطة. عبارات تؤكد أنّ رحيل مبارك أصبح واقعاً، يجري الترتيب له بين واشنطنوالقاهرة، لإعادة الأمور إلى سابق عهدها. فمصر هي ثاني أهم حليف للولايات المتحدة في العالم، بعد إسرائيل، لأسباب عدّة، ليس أولها العلاقة مع الدولة العبرية وآخرها حماية طريق النفط في قناة السويس، ولا يمكن أن تسمح واشنطن بأن يصبح النظام الجديد فيها معادياً لها، ولذلك تسعى إلى الحفاظ على الستاتيكو لكن بوجوه جديدة، ترضي الشعب الثائر. عمر سليمان رجل أمريكا في مصر وهكذا بعد أسبوع من العبارات والتصريحات حول النظام وقدرته على «حماية الاستقرار» و«الحفاظ على الأمن» بات واضحاً تخلّي واشنطن عن مبارك. وبعدما رأت دوائر صناعة القرار في الولاياتالمتحدة إصرار المتظاهرين وعزمهم على عدم التوقف قبل أن يرحل الطاغية، كما نادت الشعارات، بدأ التغيير في الموقف الأمريكي، وزاد التنسيق بين واشنطنوالقاهرة، في الآن نفسه. تنسيق بدأ الأوضح يوم جمعة الغضب، إذ لم يتحدث الرئيس المصري حسني مبارك إلا بعد اتصال هاتفي مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. النتيجة كانت تعيين عمر سليمان، نائباً للرئيس، ما يعني عملياً رحيل مبارك وعدم توريث ابنه. والخطوة أمريكية بامتياز، نظراً إلى أن الرجل هو المرشح الأمريكي لخلافة مبارك لعلاقته الوطيدة مع دوائر القرار الأمريكي. فهو كان متعاوناً جداً في تنفيذ برامج واشنطن المتعلقة بعملية السلام ومكافحة الإرهاب وقضايا أمنية أخرى، عزيزة على قلبها. وقد تكون واشنطن اليوم تفكر في أن يكون لرئيس أركان الجيش سامي عنان دور أكبر من سليمان في المرحلة المقبلة، نظراً إلى أنّه يتمتع بشعبية أكبر بين المصريين، الذين يكنّون كرهاً كبيراً لنائب الرئيس الجديد. ومع نزول الجيش إلى المدن، تجد الولاياتالمتحدة نفسها مرتاحة للوضع على الأرض. فهي صرفت في السنوات الماضية مليارات من الدولارات لتدريب الجيش المصري وتسليحه، ما أمّن لها ولاءه. واستطاعت الأموال التي صرفتها خلق طبقة جديدة من الضباط الأغنياء الذين يعرفون أنّ تحسن أوضاعهم المالية يعود إلى الكرم الأمريكي. هكذا ضمنت أمريكا الوضع ليصبح تحت سيطرتها. فالجيش مرحّب به من قبل المتظاهرين، بما أنّه لم يسبق له أن أطلق النار، في تاريخه كلّه، على المدنيين المصريين. وهو لا يمكن أن يخرج عن الطاعة الأمريكية. الفزاعة الإسلامية لم تعد تنفع يمكن أيّ مراقب أن يفهم الأهمية الكبيرة لما يحدث في الشارع المصري، داخل دهاليز واشنطن، من عدد الاجتماعات التي عقدت، ودعوة مجلس الأمن القومي أكثر من مرة للتشاور وكمية التصريحات التي أطلقت. حتى إنّ أوباما تناول الموضوع أكثر مما فعل الرئيس المصري نفسه. وقد تكون واشنطن فهمت أخيراً أنّ الفزاعة الإسلامية، التي تثيرها كلما جرى الحديث عن الديمقراطية (وصول حماس إلى السلطة في فلسطين بعد انتخابات 2006) لم تعد تنفع اليوم. وربما أهم سبب يدفع الولاياتالمتحدة إلى هذه النقلة في مواقفها، هو أنّه لم تكن لها يد مباشرة في إثارة القلاقل هذه المرة، فالمصريون انتفضوا وحدهم، وتستطيع واشنطن قطف ثمار التغيير والحفاظ على مصالحها، من دون أيّ مجهود. ويقول مارك لينش، الخبير في الشؤون المصرية بجامعة جورج واشنطن، إنّ أوباما يسعى إلى القيام بدور الوسيط بإقناع قيادة الجيش المصري والحلقة الضيقة التي تحيط بنظام الحكم بتسهيل رحيل مبارك وضمان التزام خليفته بنقل سلس للسلطة إلى رئيس مدني يلتزم بالممارسة الديمقراطية. ويشير لينش إلى أنّ البيانات المتدرجة التي صدرت عن أوباما وكبار مساعديه ليست دعوات أخلاقية أو بيانات إنشائية تؤيّد المحتجّين. لكنّها، وفق لينش، إجراءات براغماتية لإنهاء الأزمة حتى لا ينتقل الخوف إلى أنظمة عربية أخرى. أنظمة ربطت نفسها سياسياً بالولاياتالمتحدة، ما يدفعها إلى البحث عن «حماة» جدد لها. وقت لترتيب الرحيل ويرى محلّلون استخباريّون أمريكيون أنّ الوضع في مصر قد أصبح فعلياً في أيدي «العسكر»، المستعد لمنح مبارك الوقت الكافي لترتيب رحيله عن السلطة. ويقول مركز «ستراتفور» الأمريكي للتحليلات الاستخبارية إنّ أمريكا وإسرائيل ستعملان ما بوسعهما، من وراء الكواليس، لإقامة النظام الجديد في القاهرة، لكنّهما تواجهان قيوداً في محاولة للحفاظ على الاستقرار الإقليمي الذي كان قائماً منذ 1978. حين وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، قرر أن يتبع برنامج عمل مختلفاً عن سلفه. عوض «أجندة الحرية» التي اجتاح بوش عبرها دولتين ليفرض الديمقراطية، قرر أوباما أنّه حان الوقت لتفهم الآخرين، مهما كانت عيوبهم، وكان يتعامل مع الدول الدكتاتورية، ومصر منها، وفق «برنامج تقبل الآخر». سياسة اصطفت واشنطن بموجبها، أكثر من أي وقت مضى، إلى جانب الأنظمة المتسلّطة، لتفاجأ بأنّ التغيير، الذي وعد به أوباما في حملته الانتخابية، أتى من مكان آخر، دون منّة من أمريكا.