شهدت الساحة السياسية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة نشاطا مكثفا حركته الاحتجاجات التي شهدتها بعض الدول العربية وخاصة تونس ومصر وكذلك الاضطرابات التي عرفتها البلاد في الخامس من شهر جانفي الماضي احتجاجا على ارتفاع مفاجئ في أسعار بعض المواد الأساسية، غير أن المعارضة اضطرت لتغيير خططها وأولوياتها. فتحت الأحداث الإقليمية شهية أحزاب المعارضة التي اختار قسم منها الشارع كنقطة انطلاق للعودة إلى النشاط السياسي بعد سنوات من الفتور، وقد كانت المطالب منذ البداية تمثل السقف الأعلى، ونزعت بعض الأطراف وعلى رأسها التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية إلى استنساخ التجربتين التونسية والمصرية دون أي مراعاة لخصوصية الحالة الجزائرية، ودون سابق إنذار رفع البعض مطلب تغيير النظام، غير أن هذا المطلب بدا مبهما وعاما فتم تكييفه على شكل جملة من المطالب السياسية مثل رفع حالة الطوارئ وإطلاق الحريات الفردية والجماعية وفتح وسائل الإعلام العمومية أمام المعارضة، وربما لم يتوقع هؤلاء سرعة استجابة السلطة، فقد قرر الرئيس بوتفليقة في اجتماع لمجلس الوزراء عقد تحت رئاسته رفع حالة الطوارئ بشكل سريع، وأعطيت تعليمات واضحة من أجل السماح للمعارضة باستعمال وسائل الإعلام العمومية كما أمر بوتفليقة بمنح القاعات مجانا للأحزاب لعقد تجمعات شعبية لطرح أفكارها على الرأي العام، وقد أربكت هذه الخطوة بعض أحزاب المعارضة التي وصفت القرارات بأنها مجرد ذر للرماد في العيون وأصرت على أن النزول إلى الشارع هو الخيار الوحيد لإحداث التغيير. لكن في مقابل هذه المواقف المتشددة فضل أهم حزب معارض وهو جبهة القوى الاشتراكية أن يتعامل بواقعية مع المرحلة وقال أمينه الوطني كريم طابو إن الحزب قرر أن يمتحن مدى جدية السلطة وأنه سيعقد العشرات من التجمعات عبر مختلف أنحاء الوطن من أجل شرح مواقفه وأفكاره وإعادة ربط الصلة بالمجتمع، وبالفعل فقد عقد الحزب أول تجمعاته الشعبية بقاعة الأطلس بالعاصمة واستطاع أن يجند أربعة آلاف شخص، في الوقت الذي فقدت فيه الدعوة إلى التظاهر بريقها وانشقت التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية على نفسها وبقي سعيد سعدي وحيدا يصارع عزوف الجزائريين عن التظاهر، وبعدها عبر أحد أبرز وجوه التنسيقية المحامي مصطفى بوشاشي عن التخلي عن خيار الشارع لصالح عقد تجمعات شعبية، وقد وصل إلى هذه القناعة بعد أن فقدت مسيرات السبت معناها حسب تقديره، وقال إن الجناح الذي يقوده بعد انشقاق التنسيقية سيشرع قريبا في تنظيم تجمعات عبر كل ولايات الوطن في إطار رزنامة عمل مضبوطة، تشارك فيها مختلف الفعاليات من أحزاب، ومنظمات، وطلبة، ونقابات مستقلة. "وعندما نرى بأن الوقت قد حان للنزول إلى الشارع في مسيرات سلمية، سندعو لذلك". هذا التحول تزامن مع طرح أفكار سياسية مثل مبادرة مهري التي لقيت استحسان حسين آيت أحمد، وقد كرس طرح تعديل شامل للدستور خيار الحوار الذي يمثل مطلبا يحظى بالإجماع، ومن المتوقع أن تثير مبادرة لتعديل الدستور في حال طرحها نقاشا وطنيا واسعا باعتبارها تمثل الخيار الوسط بين مطلب المجلس التأسيسي الذي لا يجد دعما كبيرا من قبل المعارضة أو من أغلبية النخب في المجتمع، وبين خيار الشارع الذي يخيف حتى أكثر المعارضين صلابة، فقد تأكدت قناعة أغلبية الفاعلين السياسيين بأن الوضع في الجزائر غير مناسب الآن لاعتماد هذا الخيار. الجدل الذي يمكن أن تثيره المعارضة في حال طرح مبادرة لتعديل الدستور هو حول الصيغة، ومن المؤكد أن الأولوية ستكون لجعل هذه المبادرة فرصة لتنشيط الساحة السياسية ولطرح مطالب سياسية محددة، وهنا لا بد من الانتباه إلى أن تعديلا شاملا للدستور في حال مروره عبر نقاش وطني واسع سيكون بمثابة إعادة بناء للدولة على أسس جديدة وهو ما قد يأتي بالتغيير الذي يطالب به البعض دون أن تكون هناك حاجة لإدخال البلاد في مرحلة من الشك.