أنا بالفعل أريد أن أكون أخفّ· هل يعني هذا أن أحطّم كل ما يصادفني في الحياة من عالم ال ''كيتش''··!!؟؟·· ما هو ال ''كيتش'' في نظري؟·· اسمحوا لي أن أخبركم، لكن، بعد هذه الومضة الإشهارية·· سكّرية على شكل ثدي·· هذا حسْنُ ذوق ما بعده ذوق، لولا أنّه مبالغٌ فيه إلى درجة السّوء·· زوجان شابّان ينامان في سرير محاط بنبات صناعي متسلّق·· يا لهما من رائعين··!!·· لكنهما سيكونان أروع لو اقتلعا نبات الزّينة هذا وأهدياه لسلّة المهملات·· أوووف·· ساعتها يشعران أنّهما أخفّ·· ومضة إشهارية عن أمن الطّرقات، يتمّ بثّها على السّاعة السابعة صباحا، تظهر فيها فتاة جميلة مع والدها المتهّور، وهو يقود السّيارة بسرعة فائقة· فجأة يُسمعُ صوتُ اصْطدام كبير·· ترتجّ الكاميرا ويظهر الزجاج محطّما·· تنطلق موسيقى حزينة ويسيل الدّم·· دمٌ غزير·· دم في كل مكان·· دم ينهمر بلا رحمة·· يا إلهي لقد مات الجميعُ دفعة واحدة، على السّاعة السابعة صباحا··!!·· ماتت الفتاة ووالدها وربما مات أشخاصٌ آخرون··!!·· وهذا ما يجعل صوت الممثل المبتذل يطلق عبارات مقزّزة، بهدف توعية الجماهير وحثهم على السّياقة ب (بطء) حتى لا يحدثَ لهم مكروه·· الواقع أنّ ما يمكن أن يتعرّض له النّاس لن يكون أسوأ من مشاهدة هذه الومضة الإشهارية·· والإشكال ليس في الهدف المتوخّى من وراء هذه الومضة، بل في الأسلوب المباشر جدا الذي صِيغَتْ به· السيناريو سطحي، رديء، فج·· و··ك··ذلك ال··م··وسيقى، ناهيك عن توقيت البثّ.. !!.. من المفيد أن أنصحَ المسافرين بالإعراض عن مشاهدة مثل هذه الومضات، لأنّ تأثيرها سلبي للغاية· إن من يشاهدها يشعر على الفور باستفزاز قاهر، وسوداوية لا نظير لها· وقد يفقد ذلك الإحساس بالسّلاسة في حركة الأشياء·· وقد ينظر لابْنته ويقبّلها كأنه على وشك أن يفارقها بعد حين·· تبّا لمن يعرضون هذه الومضات· إنهم عدوانيون·· سيئو الذّوق·· أليس كذلك··!!؟؟·· نعم، إنهم كذلك·· والدليل أنّ أعصابي شبه منفلتة الآن· حتى أنني غير واثق تماما فيما إذا كان مخترع السّيارة رجلا ذا نوايا حسنة إزاء البشرية·· أهذا ما يريدون أن أفكر به··!!؟؟ تبا لهم، لقد نجحوا في قهري والتنكيل بأحاسيسي هذا الصباح·· لكنّهم لن ينجحوا تماما·· سأرجئ سفري هذا اليوم لأنني لا أريد أن أمسك مقود السيارة بأسناني وأقود بسرعة 200 كلم في السّاعة، نكاية في خريجي مدارس عالم ال ''كيتش''·· إدارة متحف بمدينة «فينترتور» السّويسرية، نظّمت معرضا يتناول مسألة الذّوق السيء مُقابل التّصميم الجيد· وسمحَ القائمون على التظاهرة للزوار أن يجلبوا قطعهم الخاصة القبيحة، سواء لإدراجها في المعرض أو لسحقها إربا·· إربا· طبعا، تعبيرا عن الغيض الشّديد، وذلك باستعمال آلة ابتكرها نحّات اسمه «أنطوان زغْراغْن»· لقد شاهدت فيديو بموقع «سويس إنفو» ورأيت كيف تعمل تلك الآلة التي يقول صاحبها: تشعر بنوع من التّحرّر عندما تحطم شيئا احتفظت به·· لكن لم تكن تريده حقا·· إذن ما عليك إلا أن تضغط على زر لتشعرَ على الفور أنّك أخف· وأنا بالفعل أريد أن أكون أخفّ· هل يعني هذا أن أحطم كل ما يصادفني في الحياة من عالم ال ''كيتش''··!!؟؟·· ما هو ال ''كيتش'' في نظري؟·· اسمحوا لي أن أخبركم، لكن، بعد هذه الومضة الإشهارية·· غالبا ما يُعلّم الآباءُ أبناءَهم القيامَ بأفعال صائبة، ويُلقّن المعلمون تلاميذهم كيفية كتابة جملة صحيحة، ويتدرّب المسؤولون على استخدام المعايير اللازمة لاتّخاذ قرارات سليمة في الأوقات المناسبة· لكن لا أحد يفكّر بوضع لائحة للأخطاء المحتمل أن يقعَ فيها الأبناء والتلاميذ والمسؤولون·· لأنّ تفادي الخطأ يُكتسب بالخبرة والتّجربة والاحتكاك· إذا افترضنا أننا بصدد تأسيس علْم من هذا النوع، فلا شك أن اسمه سيكون ''علم تفادي الخطأ''، وسيكون لدينا تقنيون ومهندسون، وباحثون مختصون في مسبّبات الخطأ، وقد يظهر على إحدى القنوات العربية شخص طليق اللسان يتكلّم من ''عمان'' أو ''بيروت''·· ثم تُكتب في أسفل الشاشة عبارة ''خبير في علْم الأخطاء''· ألا يبدو هذا الأمر طريفا··!!؟؟·· رغم ذلك، لا شيء مستبعد، فنحن غالبا ما نقرأ مقالات في صحف لا نتذكّر أسماءَها، عما يشبه التدابير التي تقع عادة تحت بنود شتى، بصيغ استفهامية· مثلا: كيف تتجنّبين سيدتي أخطاء الماكياج؟·· أو كيف تتجنّب سيدي الأخطاء أثناء البحث عن وظيفة؟·· أو كيف تتجنّب ارتكاب الأخطاء الشائعة أثناء المقابلات؟·· وهناك أيضا لوائح تحت بنود مثيرة للانتباه؛ مثلا: كيف تتفادى الأخطاء الشّائعة أثناء عمل طبق السّلَطة؟ أو كيف تتفادين الأخطاء مع زوجك داخل غرفة النوم؟·· وهكذا·· ما يهمّ في هذا الموضوع سؤال واحد هو: كيف لك أن تعرفَ إن كانت هذه المِزهرية وذاك الفنجان يتميزان بسلامة الذّوق أو بانْعدامه أصلا؟ هذا السؤال تضمنته فقرة شرح تقديمي لفيديو يبثّه موقع «سويس إنفو»، يحمل عنوان: عالم ال ''كيتش''· ويظهر في بداية الفيديو مؤلّف كُتب، اسمه ''فليب تينغر''· تقول عنه مقدمة التّقرير: إنه ''خبير في ال ''كيتش والذوق الرديء''· وقد تفضّل هذا الكاتب بالحديث عن القدرة على اختيار الأشياء التي تناسبنا وتواتي المكان الذي نعيش فيه· كلمة ال كيتش (kitsch) ظهرت عام 1860 في ألمانيا، وتعني حرفيا البضاعة الرّخيصة، لكنها بالمعنى المجازي تحيل إلى (الذوق الرديء) كخط فني يقوم على الاستخدام السيء للمواد، أو على المبالغة في توظيفها إلى حد فقدان القيمة الفنية والمعنوية·· إنّه فن التنكر للواقع أو طمسه تماما من خلال محاولة تجميله· مرحبا بك في سلسلة ال«كيتش شوب»، حيث الغنج الذي يجعلك تتعرّض للاستغفال فتكون سعيدا بذلك.. تبدأ الضّيفة المختصّة ببرامج "التمنية البشرية" الحديث عبر التلفزيون عن "المهارات الأنثوية"، وتحرص أن يكون كلامُها رقيقا وجذابا.. و.. ملفتا للسّمع. إنّها تفكر بضرورة أن يكون ظهورها، باعْتبارها مدرّبة في "دورة الامتياز النسوي"، مفعما بالأنوثة.. والأنوثة بالنسبة لها لا تبرز إلا في انتقائها العبارات الدّافئة، وإطلاقها بصوت ناعم. إنها حريصة على هذا وتتحدّث دون ارتباك، بينما تضع نصْب عينيها عبارة: "أنا مدرّبة وعلي أن أكون قدوة يُحتذى بها..".. وهكذا تصبح الأفكار لديها سبّاقة طلائعية، متوافقة مع دقّة نبراتها؛ كلّ فكرة تمرّ.. لا تمر إلا عبر صوتها.. كلّ فكرة سابقة لصوتها. إنها تعلّم النّساء، خلال دورات تدريبية، كيف يكنّ ناجحات في حياتهن، وتطمح أن تجعل كلّ واحدة من هنّ تبلغ درجة الامتياز مثلما بلغتها هي، ولهذا استحقّتْ أن تظهر في التّلفزيون لتعطي الانطباع بأنّ الوصول إلى أعلى المراتب ليس "مهمة مستحيلة"، إنه شيء يتحقق بين الحين والآخر. والدّليل أن "المدرّبة الشّابة" تتحدث الآن في الأستوديو" ويمرّ كلامها عبر الأثير ليصل إلى ملايين الناس، فتلتقطه نساء الوطن، ثم يقمن بتقليد النّموذج؛ كمية مقبولة من الصّوت الحنون، على مقادير من الغنج غير الظاهر، مضاف إليها حركات اليد مرفقة بنظرات الثقة، مع الحرص على بقاء الابتسامة في حالة سيلان إلى حين "رفع الجلسة" التلفزيونية. بعض النساء يكتسبن بالفعل مهارات أنثوية عالية، فيصبحن مؤديات في بيوتهن. أقصد يصبحن نجمات متألقات، و..كل لحظة من حياتهن تمرّ كأنها لقطةٌ عابرة للأثير. لكن، ماذا عن الزّوج..!!؟؟.. على الزوج أن يكون في هذه الحالة مجرّد "مستهلك للغنج".. أقصد هنا، ذلك الغنج المنهجي، المبرمج، النّموذجي، الموزع على بنود وخانات.. الغنج الواعي، الذّكي، المدبلج، المدبلخ، المحترف.. الغنج المحضّر بعناية، المتجدّد، تلقائي التّحديث.. الغنج المتحوّل للضرورة، المتفاعل، القابل للتأقلم في كل الأجواء ومع كل المزاجات.. الغنج الشيّق، الخفيف، الحاذق، المعدّل النّسخ حسب الطّلب.. ال..غ..ن...ج.. ال...معتمد من مدارس "التنمية البشرية"، المنتشرة اليوم في بلادنا، لتدريب سيدات المستقبل على بلوغ أعلى درجات الامتياز الأنثوي. في يوم ما من شهر ما، سنة 2006، حضرتُ افتتاحا لمهرجان خاص بالبطولة الوطنية للشعر النّسوي بمدينة «بسكرة»، صِنْف أكابر. اخْتار فيه القائمون عليه وكلّهم من الذّكور قاعة "حمام الصالحين" لإعطاء إشارة الانطلاق لهذه التّظاهرة النّسوية الشّيقة، فيما كانت بوابة (الحمام) مزيّنة بالأعلام وجريد النّخيل ولافتة من القماش الأبيض مكتوب عليها: "الوطن قلب امرأة". الشاعرات جئن من مختلف جهات الوطن، ومن البلدان العربية، وحتى من إسبانيا والصين.. وكنّ يتجولن ويمرحن في ساحة «الحمام»، وفي عيونهن ثقة بأن الوطن فخور بهنّ ويجدّد ثقته في كل مرة بإمكاناتهن غير المحدودة. قمتُ بالتقاط بعض الصّور لحساب مجلّة محلية، وبقيتُ أنتظرُ حفل الافتتاح. بدا الإنهاك على الجميع؛ الرجال افْترشوا الجرائد وجلسوا ينتظرون، أما النّساء فكن صبورات يتجوّلن بهدوء ويتبادلن الحديث، وكلّهن حرص على إبقاء فساتينهن بحالة جيدة. أما أنا فقد أصابني السّأم ساعتها، وعندما أسأم أغنّي... أظنّ أنني غنّيت في ذلك اليوم أغنية: "مامّا يا مامّا.. / لابسه الزّرقاطي/ لْخواتم فضّه / ولْحزامْ غْواطي"، غنّيت ودخلت حالة من اليأس اللذيذ.. تكرار الأغنية والمشي والدّوران حول نفسي والاستمتاع بالحمى وهي تتسرّب إلى أطرافي. كنتُ أنتظر وأغني.. وأغني.. وأغني... حتى صاح أحدهم وكان في منتصف العمر، يرتدي (بدلة رمادية) وعلى صدره بطاقة منظّم تلمعُ كدرع فخري: "هيا يا جماعة الجماعة جاو". نهضت سعيدا وسرتُ مع الحشود باتجاه باب القاعة، وبأقلّ جهد حصلتُ على مكان جيد لالْتقاط صور جيدة. اقترب الوفد؛ السيدة الوزيرة، الوالي، رئيس المجلس الشعبي الولائي ومسؤولون آخرون.. وقبل أن يصلوا إلى باب القاعة، اقتحم الدائرة المخصّصة لمرور الوفد أفراد من فرقة شعبية يرتدون ملابس فرسان ويحملون بنادق عتيقة. صاروا يطلقون النار تحت أقدامنا، ويصوّبون في اتّجاهات مختلفة ثم يقومون بحركات فلكلورية غريبة، ويطلقون مرّة أخرى.. إنّهم يطلقون بلا هوادة. تذّكرت عبارة "يلعب بالنار". كانت الوزيرة تضحك بعمق وتحيي وتصافحُ كل من يقترب منها، وكانت تحاولُ بدبلوماسية عالية أن تشارك الجميع فرحتهم. كان صوت البارود أعلى من اللازم. غالبتِ الوزيرةُ شعورَها بالانزعاج وأعطتْ انطباعا بأنّها مبهورة، مبهورة جدا بما يحدث. إنّه نوع من المجاملة يتطلّب ذكاء عاطفيا حتى يفهمَ القائمون على التظاهرة أنّ إطلاق البارود بهذه العنجهية تحت أقدام الجمهور وفوق رؤوسهم أمر يدعو للتقزّز. زغردت النّساء وتباهى بعض الرجال المحيطين بهذا التّرحيب النّادر، وكانت الوزيرة تعبر عن سعادتها بهذا الجوّ العارم، بانْتظار أن ينتبهَ أحد لضرورة توقيف هذا العرض المؤذي. استمرّ الوضع هكذا وزاد حماس الفرسان، فشقّتْ الوزيرة طريقها إلى القاعة وتركتهم يطلقون النار، ولعلهم لا يزالون كذلك حتى هذه اللحظة. يومها حمدتُ الله أنني لست وزيرا... وإلا لكنتُ أطلقتُ على هؤلاء أي شيء ليكفّوا عن مرحهم المبتذل... يتبع../..