إنها أسئلة تراودني أحيانا كلما عبرتُ شارعا شعبيا مزدحما بالواجهات، حيث دمى المانيكان الرّخيصة أكثر من عدد الزبائن؛ بعضها مكدّس على دفّة باب حديدي وداخل المحلات؛ فحيثما تلتفتُ يواجهك جذع دون رأس، أو برأس لكن بلا أطراف. وثمّة مانيكانات تلمسُها بالخطأ فتسقط دون أن تتغير ملامحها (الجزء الثاني) طلاء شفاه لا تزيله القبلات "طلاء شفاه لا تزيله القبلات": عبارة دعائية لا تؤّكد وظيفة شفاه السيدات الجميلات فحسب، بل تضمن أداء هذه الوظيفة من دون آثار جانبية ودون خسائر السيدات اللواتي يهرعن إلى محلات بيع مساحيق التّجميل، يعتبرن هذا الاكتشاف مثيرا ورائعا، ويشكرن كثيرا شركة (لب إنك) التي أنقذتهن من جملة مواقف كنّ سيتعرضن لها مستقبلا لولا هذا الطّلاء العجيب البالغ الرّواج في أسواق التجميل ذات المنافسة الشديدة والمداخيل الخيالية السيدةX تستعمل هذا الطلاء وهي لا تنصح به إلا صديقاتها المقرّبات، وهي واثقة من جهل زملائها في العمل لثقافة التّجميل؛ فهُم حسب ظنّها غير قادرين على التّمييز بين مختلف أنواع المساحيق والطّلاءات؛ لهذا فهي جدّ مطمئنة إنّ مركزها الاجتماعي يجعلها تتفادى أن توصفَ بأنّها معرضة في كل لحظة لقبلة طارئة من رجل طارئ أو معين. ولا شك أنها كذلك بالفعل أنا لا أدّعي أبدا أنّني أتمتع عكس زملاء السيدة X L بثقافة عالية في هذا المجال الزّاخر بالألوان الباردة والحارّة، الضاجة والهادئة، الفصيحة والمتلعثمة، الفاترة والبالغة درجة الغليان، الحمراء وما تحت الحمراء، وفوق البنفسجية.. فوق السترة البنفسجية، والحداثة وما قبل الحداثة وما بعدها، والوحشية والبنيوية وسرير السنونو، والتسريحة الغلامية والجسد الأفعوي وشعر اللبؤة... أنا لا عِلْم لي بكلّ هذا؛ لذا أجدني أكتبُ عن السيدة XX Large لمجرّد أنها سيدة مفترضة؛ من خلالها يمكن أن أحكم حكما غير جائر على كل السيدات المبهورات بما روجت له شركة (لب إنك) وأتهمهنّ بخيانة بعولهن إذا كنّ ذوات بعول، وبخيانة عشّاقهن إذا كان لهنّ عشاق، وبخيانة مركزهنّ الاجتماعي، إذا كنّ مهيئات للخدمة العمومية إلى هذا الحدّ أتهمهن وأطعن في ذوقهنّ، فقبلة لا تنسفُ طلاء شفاه، مَثُلها كمثل برتقالة بلاستيكية؛ لا تذبلُ ولا تتعفّن، لكنْ لا روح فيها ولا لبّ لها هيا نقترب من روح المانيكان في 2009، تداولتْ وسائلُ الإعلام في مختلف دول العالم خبرا مثيرا للجدل، مفاده أن الشّرطة الإيرانية توجّهتْ بتحذير لأصحاب محلات بيع الألبسة النسائية، الذين ينتهكون الحظر المفروض على "عرض المانيكان النسائي دون حجاب"، خصوصا إذا كانت "المنحنيات الأنثوية" بارزة في المانيكان. وبدا وقتها أن هذا التّحذير يدخل في إطار جهود تقوم بها إيران للحدّ من تأثيرات الثّقافة الغربية على مواطناتها ومواطنيها الخبر تمّ اسْتغلاله في وسائل الإعلام العربية والغربية، المغتاظة من إيران، لإظهارها على أنّها بلد يحكمه نظام متزمّت، لا يحترم الحريات الشّخصية. والواقع أنّ عبارة "الحريات الشخصية" لا تعني هنا حرّية المانيكان نفسه في أن يتحجّب أو يبقى عاريا على منصّته في واجهة المتجر. إنه ليس بكائن حي، ولهذا فلا جدوى من إعطائه الحرّية أو حرمانه منها. الأمر يتعلق بأصحاب المتاجر وبالزبائن، ومدى حرّيتهم في أن يبيعوا ويقتنوا ما يناسب أذواقهم من الألبسة، دون توجيه من الحكومة التي تريد منعَ الرجال من بيع ألبسة داخلية للنساء، ومنع النّساء والرجال معا من تعرية المانيكان وهكذا.. إنها إجراءات الغاية منها تعطيلُ سرعة انتشار (السلوك غير الإسلامي) في إيران بغضّ النّظر عن موقفي من هذا الحظر، وموقفي من منتقديه عبر وسائل إعلام في بلدان هي أكثر تزمّتا من إيران، إلا أنني أودّ الإشارة إلى مسالة أراها ذات أهمية، فيما يخصّ المانيكان، (سواء كان ذكرا أم أنثى). هل توجد قوانين تؤطّر استعمالَه.. وهل باعةُ الألبسة أحرار بشكل مطلق في استعمال هذا الكائن المثير للدّهشة.. وهل يراعى الذوق (السّليم) في طريقة عرضه..؟؟ إنها أسئلة تراودني أحيانا كلما عبرتُ شارعا شعبيا مزدحما بالواجهات، حيث دمى المانيكان الرّخيصة أكثر من عدد الزبائن؛ بعضها مكدّس على دفّة باب حديدي وداخل المحلات؛ فحيثما تلتفتُ يواجهك جذع دون رأس، أو برأس لكن بلا أطراف. وثمّة مانيكانات تلمسُها بالخطأ فتسقط دون أن تتغير ملامحها، وأخرى مثبتة جيدا في الخارج، بينما الباعة يقومون بنقل القطع، إذا لزم الأمر دون أن يرفّ لهم جفن. إنّهم يفعلون ذلك دون تفكير بأنّ هذا الكائن الفاقد للشعور قد يبعث في الآخرين شعورا ما بعض الناس يستحون من وجود مانيكان في حالة عري بالقرب منهم، وبعضهم يشعرون بشفقة من نوع خاص إزاءه، بعضهم تتحرّك لديه أحاسيس جنسية لرؤية مانيكان مكشوف العورة أما بعضهم فيرغب بالحديث إلى المانيكان لكنه لا يجرؤ الأمر مختلف بالنسبة للواجهات الرّاقية حيث المانيكانات ذات التصميم الجيد تحاكي جسم الإنسان في أقصى حدود مثاليته، وعادة ما تكون محاطة بأضواء معبّرة، بينما الرّأس مائلٌ والشّعر منسدلٌ واليدان تنثران وردا خفيا، مما يُعطي إحساسا بأنّ هذا الذي يشبه الإنسان في سجنه، لا يتعرّض للقهر دائما، إنّه مصان الكرامة في الأماكن الراقية ذات مرة رأى طفل مانيكانا فاقدا لإحدى ساقيه، فبكى بشدّة خدع شعرية شيقة.. الكثير من النّاس يتحدّثون عن "الكتابة بإحساس"، ويقولون: إنّ فلانا شاعر ذو حسّ مرهف.. وإنّ نصوصه لتفيضُ بالأحاسيس الجميلة. وقد يتطوّّع أحدهم بإعطاء إيضاحات عن سرّ هذه الأحاسيس. ولماذا هي مفقودة في نصوص أخرى في الواقع إنّ قصائد كثيرة في الشعر العربي بها تعابير مكرّرة، أو بالأحرى يمكنُ الاستغناء عنها أو بناء تعابير أخرى على منوالها: "سأقتل في هواك دمي".. أو تعبير آخر: "لماذا تغامر صوب السؤال سدى..؟ وعندما نقرأ كلمة (سدى) فإننا نتوقّع أن نجدَ بعد سطر أو اثنين، كلمة (مدى) أو (ردى هذا ما يحدث في ثلثي الشّعر العربي المعاصر. خصوصا لدى متوسطي الموهبة، أو هؤلاء الذين يودّون كتابة شيء جميل دون التوّرط في المغامرة
"لماذا تعلق قلبك بين صعود الفراشات نحو السؤال وبين الردى"؟.. (صوب- نحو- بين).. لفظتان اثنتان تفيدان الاتجاه والثالثة تفيد الموضع إذنْ فأنت تغامر صوب (السّؤال).. وأنت تعلّق قلبك بين صعود (الفراشات نحو السؤال) وبين الرّدى. لماذا تفعل هذا..!!؟؟ ثمّة سؤال و(ردىً) وقلب وتهويم... وهكذا يتحقّق الإحساس المرهف دعنا نجرّب القيام بتنقيح للجملة الشعرية السّابقة، مع الاحتفاظ بما يمكن من الكلمات التي وردتْ فيها لماذا تغامرُ صوبَ السّؤال سدى/ لماذا تعلّق قلبك بين صعود الفراشات نحو السّؤال وبين الرّدى؟. فنجعلها "لماذا تغامرُ صوب السّؤال سدى/ وتتركُ قلبك مثل الفراشة مأخوذة بالضياء الذي ليس خلفه إلا حدود الرّدى.. عبارة (مأخوذة بالضياء) جعلناها كناية عن السّؤال، فتفادينا تكرار الكلمة ذاتها، في الشطر الثاني، وخلقنا علاقة منطقية بين الضّياء والفراشة، فكان في البيت الشعري بعض الجمال والاستعراض الفلسفي الواقع أن معالجة هذا النّوع من الشّعر أمرٌ في غاية البساطة، ويمكن تلقينه لمحدودي الموهبة فينتجون قصائدَ ذات إحساس مرهف، يصفّق لها جمهور قابل للتّفاعل مع الخدع الشعرية الشيّقة أشيرُ أنّ البيت الشّعري الذي تمّ تنقيحه، للجزائري (عياش يحياوي)، من مجموعته (ما يراه القلب الحافي في زمن الأحذية أطالب بكذب أكثر جودة.. الكذب في نشرات الأخبار التلفزيونية لا يعني سوى أن يعلّق صحفي في قناة عربية عن تلك السّيارة الضّخمة التي دهست أعدادا من المتظاهرين، في أحد شوارع القاهرة، فيقول: ..ربما هذا بسبب الخوف من المتظاهرين أن يؤذوا هذه السيارة طبعا هذا ليس مجرّد مثال افتراضي. لقد سمعتُ هذا التّعليق بأمّ كليتي، الجمعة 04 فبراير 2011، من صحفي محترف في قناة تلفزيونية تحاول افْتكاك الريادة من ضرّتها، المعروفة بحماس صحفييها وهم ينقلون تقاريرَ عن فضائح الحكّام والمسؤولين العرب الكذب موجود في كل تلفزيونات العالم، لكن بأساليب مختلفة. الفرق يكمنُ في مدى احترافية هذا الصّحفي أو ذاك. ثمة صحفيون يكذبون وثمّة آخرون يقولون ما تيّسر من الحقيقة بطريقتهم الخاصّة بعض التلفزيونات مختلفة تماما عن كل تلفزيونات العالم؛ إن صحفييها لا يكذبون ولا يقولون الحقيقة. إنهم فقط... وعلى سبيل المثال، يجلبون شخصا يدعو إلى الشّفقة، ما أن تراه حتى تعتقدَ أنه خارج للتوّ من إضراب عن الطعام. وتدفعك الحَميّةُ المواطناتية لمساندته، لكنّك تتراجع بعد أن تراه وتسمعه يتكلم عن (الغذاء الصحي)، ويُعلّم الجماهير كيف يعتنون بأنفسهم ليتمتّعوا بلياقة جيدة تمكنهم من حمل الأثقال. يعلمهم ذلك بينما يده ترتعش من ثقل الميكروفون بعض التلفزيونات مختلفة تماما؛ إنّ صحفييها... إنهم فقط... على سبيل المثال، يجعلون صحفيا ثخينا ينطق تلك العبارة الثخينة: معنا البروفيسور.. برو ووووو... فيسور...سورسورسورررر وهكذا تعتقد أنّ هذا الضّيف سيقول كلاما مهمّا عليك الاقتناع به. وقبل أنْ تقتنع تماما، يقوم الصّحفي الثّخين بمقاطعة ذكية للضّيف، على اعتبار أن الحجز في الأقمار الصناعية لا يسمح، ويتوجّه لضيفه الثاني. ووواوووو.. يا الهي، إنه آرنولد غريب، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في واشنطن.. طن طن طنننننن... إنّه يتقدّم إلى دائرة الضّوء ويستعرض أفكاره المفتولة للكذب التلفزيوني أصول إنني أطالب بكذب أكثر جودة، وهذا ما يمكن أن يدخل في إطار الإصلاحات الجارية