(تابع).. كانت كلمات الطبيب تنزل كأحجار من نار على قلب الشيخ .. وكانت دموعه تحمل غيظا لا يقاس .. وراح يستسمح الطبيب بان يراه ولو من خلف الزجاج ولكن الطبيب الجراح اعتذر بادئ الأمر ثم رق قلبه لحال الشيخ وقال : -لك ذلك يا عماه.. رغم..أن هذا الأمر غير مسموح .. كاد الشيخ أن يطير فرحا.. لولا أنّ قلبه المطعون ذكره بألا يفعل فما تبقى من أوردة هذا القلب قد احتوته الفجيعة ..تقدم " الخال " شيئا فشيئا حتى أدرك القاعة التي كان جسد ابن أخيه أسعيد تمثالا هامدا فيها .. من خلف الزجاج كانت شهقاته الخرساء تعبث بجسده النحيف تفحصه من قدميه إلى رأسه الموارى بأنابيب للتنفس وأخرى للسائل المغذي ..وصدره كان عاريا ينتفخ حينا وينكمش حينا آخر وكان المشهد أقسى من أن يكمل الشيخ متابعته فطأطأ رأسه وبكى ..وما أدراك ما يبكي الشيوخ !! وكان مسلسل الدموع التي مثلت عيون الشيخ أرهب من أن يواصل الطبيب مشاهدته ..فأمسك بيده .. وبكى معه وربت على كتفيه.. وسارا معا.. خارجين ..طبيب إلى مكتبه وعمله وشيخ محطم إلى جحيم ظل يحيط بجسده وهو عائد إلى بني ورتيلان .. المواطن الذي كان أسعيد يحب زيارته دائما قبل أن تصطدم بشاشته بنكسة اغتيال –حبيبته زوجته زوينة " * * * الحركة دؤوبة في شوارع مدينة العلمة ذاك الصباح العلمة تجدد زينتها كل يوم لزائريها وساكنيها ..عروس يزف إليها كل شيء . فتزف كل شيء لكل الناس مدينة كخاتم فضي في أصابع الأيام لكن "مقهى دبي " كانت مغتبطة بمقدم ثلة من الأصدقاء المفجوعين ..جمعتهم "سيغورني " قبل أيام وفرق الشرود أذهانهم المتعبة وهم جالسون الآن على طاولة واحدة حيارى ..محزونين ..وأدمى أفئدتهم ما حل بصديقهم " أسعيد " الذي ما انقطعوا عن زيارته في المستشفى يوما واحدا ..لكنهم .. صاروا الآن لا يعرفون أين هو فمنذ خروجه من المستشفى انقطعت أخباره ... عبد السلام يسكب نظراته في فنجان القهوة التي طلبها ولم تمتد إليه شفتاه اللتان ظلتا صامتتين .. رشيد ..يلف بلحظة أوجه أصدقائه في حيرة .. أما قيس فقد حمله خياله الشاعري إلى أفاق بعيدة يتفحص قمم الذاكرة وسفوح المدى ووديان التّخمين فلا يعثر لصديقه أسعيد على اثر .. "توفيق " في صمت يشبه اليأس.. وحسرة تناسلت من وجده الملتهب.. ولا شيء يوحي بالجديد ولكنه ينتفض فجأة من سكونه قائلا : يا أصدقاء .. الذي حدث قد حدث.. فإلى متى وأنتم تتجرعون مرارة الفقد ؟ ويضيف عبد السلام وقد تدافعت الكلمات على لسانه : -نحن لم نرتكب جرما يا رفاق.. ولم نبخل على اسعيد بشيء.. لقد هالنا ما وقع له.. عزيناه في مصابه وهو في غيبوبته .. وقبلها مشينا في جنازة أمه .. وانفرط عقد دموعه لحظتها فما أضاف كلمة واحدة .. وفي هذه اللحظة دخل عليهم عبد القادر وقد استعاد بعضا من حيويته المتلاشية جراء ما حل بالصديق الحنون "أسعيد" ألقى السلام فرد السلام ..وارتسمت البسمة المرتعشة على شفتيه فظن الأصدقاء انه يحمل إليهم الجديد ..وبشرى فأستفسروه على لسان قيس حين قال : -عبد القادر هل من جديد.. هل من أخبار ؟ انسحبت البسمة حينها من شفاه عبد القادر ونصب الصمت خيامه عليها وقال بصوت ملؤه الحزن : - ومن أين تأتي الأخبار يا قيس ؟! -حينها ضرب عبد السلام بقبضته على الطاولة غاضبا على ما حدث وقال أخشى أن يختفي اسعيد عن أعيننا مثلما اختفى قبله ذو الشيب الصغير أخشى عليه من ..،.... آه أخشى على نفسي من صدمة فقدهما معا .. حينها تكلم قيس مرتعش الفريسة قائلا : -وأخشى على سيغورني أيضا من خبر الاختفاء ثانية .. -فلما اختفى ذو الشيب الصغير اختفت البسمة من شفاهها وما يدرينا إذا غاب أسعيد واختفى أن تجف عين الفوارة حينها يكون وقع الصدمة أشد .. لحظتها فقط ابتسم توفيق وقال وعيناه مشدودتان بخيوط السماء .. .. ولكن عين الفوارة لن تجف منابعها ..مستحيل وتحولت الجلسة إلى قعدة للدعابة حين قال رشيد : نقول هذا يا توفيق لأنك تشبه "فيدال" كما قالت سيغورني ؟ ضحك الجميع وتضاحكت بأعينهم الأحزان فجأة عندما رن هاتف أحدهم وأخبره صديقه من مدينة سطيف أن المدينة تشهد حالة من الذعر و الارتباك بعدما استيقظ سكانها هذا الصباح على متاريس مطروحة في المداخل الرئيسية للمدينة وأن رجال الأمن منتشرون في كامل الشوارع وحملات التفتيش جارية على لباس وجسد ..على قدم وساق ..؟!!!!قام الجميع من مجالسهم .. تفرق الأصدقاء الستة في كل اتجاه. كان عمار واقفا في شرفة إحدى عمارات حي -لا بيناد- شاردا يضرب كفا بكف .. وإلى جواره زوجته "أحلام مفتتة القلب مشتتة الأفكار فقال عمار –عجيب .. ما الذي يجري ؟!!! -وما الذي حدث يا عمار ؟ -تخيلي معي يا احلام اليوم هو موعد امتحانات طلبة كلية الأدب.. ولكن الطلبة جميعهم غائبون !!! الكلية مقفرة .. خاوية على عروشها .. كنا نحن الأساتذة منتظرين مدهوشين مما حدث ..ما الذي أصابهم ؟ قالت أحلام وقد قضت في سلك المحاماة سنين عددا -حتى المحاكم أقفرت جميعها .. حضر القضاة والمحامون .. وبقوا جميعهم واقفين صامتين .. فأحتار أيضا المتهمون قالت "حياة " لزوجها " عيسى " لماذا عدت مبكرا من السوق ما الذي حدث أنسيت شيئا ؟ قال زوجها : الأسواق مغلقة .. خاوية .. السلع..كاسدة ... الفواكه و الخضر فاسدة .. لا بيع اليوم ولا شراء عاد طار ق كئيبا إلى البيت على غير العادة فسأله أخوه : هل سحبت جواز سفرك من مقر الدائرة ؟ دوح رأسه متحسرا وقال : مقر الدائرة مغلق ..مقر البلدية موصد .. مقر الولاية غير مفتو ح !!! ما الذي جرى !! كانت يداهما متداخلتين وهما يسيران في حب وشوق صوب أقرب محل بيزيريا كي يستريحا قليلا ويحكيا بعضا من قصص غرامهما لكن ما الذي يحدث ؟ كل المحلات موصدة ..مغلقة ؟!!!