انتقلت بعض أحزاب المعارضة إلى المطالبة بتأجيل تعديل الدستور إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية بعد أن كانت قد وضعته على رأس الأولويات في الإصلاح السياسي، وتؤكد هذه الخطوة تركيزا واضحا على الانتخابات الرئاسية بدل الإصلاحات التي تمثل المشروع الأهم الذي كانت هذه الأحزاب تدعو إلى الإسراع في تجسيده منذ إعلان الرئيس بوتفليقة عن الإصلاحات السياسية في خطابه إلى الأمة في الخامس عشر أفريل من سنة 2011 والجدل يدور حول أولويات المرحلة القادمة، وقد كانت المنهجية التي كشف عنها الرئيس تقوم على مبدأ التغيير عن طريق المؤسسات في كنف احترام الدستور، وهو ما أدى إلى الذهاب أولا إلى انتخابات تشريعية ثم محلية لتجديد المجالس المنتخبة في موعدها، وإعداد حزمة من القوانين التي تمثل الإطار القانوني للإصلاحات مثل قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وقانون الإعلام والإشهار والقانون الخاص بالسمعي البصري، على أن يتم تتويج العملية برمتها بتعديل الدستور سواء عن طريق البرلمان أو من خلال استفتاء شعبي. وقد كانت هذه المنهجية محل انتقاد من قبل بعض الأحزاب التي رأت أن العملية تسير بالمقلوب، وأن الأولى هو تعديل الدستور وعلى أساس المشروع الجديد سيتم اعتماد قوانين جديدة وانتخاب المجالس المحلية والبرلمان، غير أن هذا التصور لم يحقق الإجماع هو الآخر، وقد جاءت المشاركة في الانتخابات من قبل الأغلبية الساحقة للأحزاب السياسية لتؤكد أن منهجية الإصلاحات ليست هي المشكلة الأهم في المرحلة الحالية، وبقي التعديل الدستوري أولوية بالنسبة لجميع الأطراف التي ظلت تترقب ما سيقترحه الرئيس كمشروع. التحول في مواقف بعض الأحزاب، التي انتقلت من الدعوة إلى التعجيل بتعديل الدستور إلى تأجيله، يكون قد جاء بعد الإعلان عن تشكيلة اللجنة المكلفة بصياغة التعديلات، وهي لجنة تقنية تضم أساتذة في القانون غير متحزبين، وقد اعتبرت بعض أحزاب المعارضة هذا الخيار إقصاء للأحزاب من المشاركة في عملية تعديل الدستور التي تعتبر أهم مرحلة في الإصلاحات السياسية، وقد تم ربطه ظاهريا بهذا التفصيل، وجرى تقديمه على أنه مقاطعة لعملية تعديل الدستور كما ذهب إلى ذلك أبو جرة سلطاني. والحقيقة أن الأحزاب شاركت في العملية منذ تشكيل لجنة للمشاورات السياسية استقبلت ممثلي كل الأحزاب التي قدمت اقتراحاتها بشأن تعديل الدستور، كما جرت اتصالات بين الوزير الأول وممثلي الأحزاب والجمعيات لنفس الغرض، وقد أشار بيان رئاسة الجمهورية الذي أعلن تشكيل لجنة صياغة التعديلات الدستورية، إلى أن اقتراحات الأحزاب ستكون مرجعا تعود إليه اللجنة لتقديم مشروع متكامل لرئيس الجمهورية، وهذا يعني أن الحديث عن المقاطعة جاء متأخرا. مطالبة بعض أحزاب المعارضة بتأجيل تعديل الدستور يرتبط مباشرة بالانتخابات الرئاسية، ويبدو المطلب غير مبرر من الناحية السياسية، ففي حال أقر الدستور المعدل النظام الرئاسي ستكون الانتخابات الرئاسية التي تليه حاسمة، فالرئيس الذي سينتخب وفق دستور جديد سيكون مستندا إلى شرعية شعبية مبنية على قواعد جديدة، ومن هنا فإن تأجيل تعديل الدستور إلى ما بعد الرئاسيات يجعل الانتخابات بلا معنى، وحتى النقد الذي وجه لمنهجية الإصلاحات التي تم تبنيها كان يقوم على التشكيك في جدوى انتخاب برلمان قبل تعديل الدستور، كما أن احتمال إجراء انتخابات تشريعية ومحلية مبكرة بعد تعديل الدستور يبقى أمرا واردا. مؤسسة الرئاسة وفق الدستور الحالي تمثل رأس السلطة التنفيذية، وإذا تم الاحتفاظ بشكل النظام السياسي، وهو الأرجح بحكم أن الرئيس وحلفاءه يقولون بنظام رئاسي بسلطات نيابية واسعة، فإن الانتخابات الرئاسية ستكون مفصلية في مسار تنفيذ الإصلاحات التي ستكتمل قواعدها القانونية بتعديل الدستور. نقطة الخلاف الأساسية بين الرئيس وأحزاب المعارضة بهذا الخصوص تتصل بشكل مباشر بالخلفية السياسية التي يستند إليها كل طرف، ففي حين أصر الرئيس بوتفليقة على جعل الإصلاحات تتم عن طريق المؤسسات ووفق قواعد الدستور، كانت المعارضة تطالب بالانطلاق من الصفر، وقد كان الحديث عن مجلس تأسيسي جزء مهما من النقاش السياسي الذي دار في بداية الإعلان عن الإصلاحات، وقد نقل عن الرئيس قوله لبعض كبار المسؤولين الذين اجتمع بهم في إطار بحث الإصلاحات إنه مستعد للأخذ بهذا المقترح إذا دعت الضرورة إلى ذلك، غير أن غالبية الأحزاب السياسية في الجزائر لم تكن مع هذا الخيار، وحتى جبهة القوى الاشتراكية التي ظلت ترفع هذا المطلب طيلة خمسة عقود اختارت المشاركة في المشاورات السياسية، وشاركت بعدها في الانتخابات التشريعية والمحلية وهو ما يوحي بأنها لم تعد تضع المجلس التأسيسي كمطلب أساسي للإصلاح. في مقابل هذا كانت المعارضة تميل إلى استنساخ التجارب التي تعيشها دول ما يسمى الربيع العربي، والمطالبة اليوم بانتخابات رئاسية قبل تعديل الدستور تمثل محاولة لتكرار تجارب تونس ومصر بشكل حرفي، وتتجاهل هذه الأحزاب حقيقة أساسية وهي أن الإصلاحات في الجزائر لم تأت نتيجة لضغط الشارع أو بسبب احتجاجات تطالب بتغيير النظام السياسي، بل كانت تتويجا لعملية تقويم وطني انطلقت منذ أكثر من عقد وشملت مختلف القطاعات مثل الاقتصاد والعدالة والتربية وقد تم إدراج الإصلاح السياسي ضمن مشروع المصالحة الوطنية الذي نقل الجزائر إلى مرحلة ما بعد أزمة تسعينيات القرن الماضي. الدول التي اختارت أن تجعل كتابة الدستور خاتمة لعملية التغيير اضطرت إلى ذلك بحكم أن إسقاط الرؤساء من خلال احتجاجات شعبية أدى إلى حل المؤسسات التي ارتبطت بتلك الأنظمة، ومن هنا كان لا بد من التعجيل بانتخاب سلطة تنفيذية للإشراف على تسيير الشأن العام وتنفيذ مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة، وحتى عندما تم اللجوء إلى هذا الخيار اضطراريا وجدت تلك الدول نفسها تدور في حلقة مفرغة، وتمثل كتابة الدستور مشكلة حقيقية في مصر حيث يواجه الرئيس المنتخب مزيدا من الضغط من الشارع الذي أصبح جزء منه يطالب برحيل الرئيس ونظامه الجديد. إن المشكلة الأساسية التي تواجهها أحزاب المعارضة في الجزائر هي أنها لا تعرف كيف تكسب معركة انتخابية، وقد كانت الهزائم الانتخابية المتوالية في التشريعيات والمحليات سببا في دفعها إلى استعمال تعديل الدستور كورقة في معركة الانتخابات الرئاسية التي لم ترتسم بعد معالمها ولم تعرف أطرافها.