فتحت طقوس تجديد الولاء والبيعة للملك المغربي العاهل محمد السادس الجدل حول إصلاح النظام السياسي في المغرب، وتتوالى المؤشرات التي تؤكد أن العلاقة بين الشعب المغربي والقصر تمر بامتحان عسير. كسرت مجموعة من النشطاء المغاربة حاجز الخوف وأصدرت "بيان الكرامة" ودعت للتوقيع عليه بكثافة، واعتبر هؤلاء أن طقوس حفل الولاء تتنافى مع قيم المواطنة وتلحق أضرارا جسيمة بسمعة البلاد، وجاء في البيان " أن البروتوكول المخزني من انحناء وركوع وتقبيل لأيدي الملك وأفراد أسرته لا معنى له غير إهانة كرامة المغاربة بهذه الممارسات التي ترجع إلى عهود غابرة، وتتنافى مع الذوق السليم وتتناقض مع قيم العصر. كما تذكرنا بمنظومة من التقاليد التي رافقت سنوات الجمر والرصاص ومآسيها". ويطرح أصحاب البيان رؤيتهم لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الشعب والقصر حيث قال البيان إن "التعاقد بين الشعب والدولة يأخذ في البلدان الديمقراطية شكل دستور ديمقراطي يزكيه الشعب عبر استفتاء حر ونزيه، بما يجعل منه عقدا يؤسس لشرعية النظام والدولة، وهي الطريقة الوحيدة لإثبات الروابط بين المواطن والدولة، في إطار من احترام كرامة المواطنين والمواطنات، بعيدا عن طقوس الإذلال والطاعة التي تتضمنها المناسبة السنوية لهذه الطقوس ببلادنا"، وهذه إشارات صريحة إلى الرغبة في وضع حد للملكية بشكلها الحالي، حيث يدعو قسم من الطبقة السياسية المغربية منذ سنوات إلى فتح نقاش حول شكل النظام السياسي، ودور الملك فيه، غير أن الإصلاحات السياسية التي تم إقرارها أبقت الملك فوق الجميع حيث احتفظ بكل الصلاحيات التي تجعله صاحب الكلمة الفصل في كل شيء. النموذج الذي يتطلع إليه المغاربة هو ملكية دستورية على شاكلة الملكيات الأوروبية كما هو الحال في إسبانيا وبريطانيا وبلجيكا، حيث يحتفظ الملك بدور شرفي، في حين تتمتع الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بكل الصلاحيات، ويتولى البرلمان المنتخب التشريع، وقد استطاعت هذه الصيغة أن تحرر العمل السياسي مع احتفاظ العائلات المالكة بعلاقات متينة مع شعوبها ومجتمعاتها، وقد انتعشت الآمال في إطلاق عملية التغيير مع تولي الملك الشاب محمد السادس الحكم عقب وفاة والده في صيف سنة 1999، وكانت وسائل الإعلام تصور محمد السادس عندما كان وليا للعهد بأنه شخص منفتح وميال إلى التغيير، ومباشرة بعد جلوسه على العرش بدأت الصحف تتحدث عن عهد جديد، وسرعان ما تبخرت تلك الأحلام بسبب إصرار محمد السادس على السير على طريق والده، وقد كانت قرارات إحالة صحافيين انتقدوا الملك على القضاء بتهمة إهانة الذات الملكية، وحبسهم وغلق جرائدهم إشارات سلبية، وقد بدت المواقف الصارمة التي اتخذها القصر بخصوص كيفية التعامل مع الملك تنبيها إلى أن وقت التنازل عن التفاصيل لم يحن بعد، وقبل أزيد من عشرة أعوام كان صحافيون مغاربة قد طرحوا قضية تقبيل يد الملك واعتبروا أنه لم يعد هناك أي داع للاستمرار في العمل بهذا التقليد المسيء الذي يتنافى مع صورة البلد العصري والمنفتح التي يجب أن يكون عليها المغرب، غير أن الرد كان مزيدا من الإصرار على صون مكانة الملك بوصفه الحاكم الفعلي والوحيد للبلاد. الاضطراب السياسي الذي شهدته البلاد العربية قبل سنتين وضع النظام الملكي في المغرب على المحك، فقد ظهر تململ شعبي ودعوات صريحة إلى التظاهر من أجل التغيير، ورغم أن تلك الدعوات لم تنته إلى تكرار سيناريوهات الربيع العربي في المملكة إلا أنها عمقت الشرخ بين القصر والشعب، فلم يعد الملك خطا أحمر في وجدان قطاعات واسعة من المجتمع المغربي وخاصة الشباب منهم، وقد أشاعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة حالة من التذمر زادت في تآكل شرعية نظام يبرر استمراريته دينيا ويقوم على إرث تاريخي بدأ يبلى منذ عهد غير قصير. الانتخابات التي جرت في المغرب أفضت إلى تشكيل حكومة بقيادة الإسلاميين، غير أن هذه الحكومة لم تستطع إلى حد الآن تلبية مطالب المغاربة، بل على العكس من ذلك تماما بدت وكأنها حكومة استمرار الأمر الواقع، ومن ناحية الإصلاح السياسي لم تظهر هناك نية في فتح حوار جاد حول شكل النظام الذي يجب أن يأخذ به المغاربة في المستقبل. قضية العفو عن إسباني اغتصب 11 طفلا مغربيا فجرت غضبا شعبيا عارما، وقد نزل المئات من المغاربة إلى الشارع للاحتجاج على العفو الملكي الذي أرادت أن تبرره حكومة بن كيران الإسلامية بالحفاظ على مصالح المغرب العليا، وقد مثل تراجع الملك عن العفو تحت ضغط الشارع سابقة في العلاقة بين القصر والشعب، ولم تفلح محاولات تغطية القرار بكونه خطأ صدر عن الحكومة التي أدرجت اسم مغتصب الأطفال في قائمة من يشملهم العفو سهوا، في إخفاء حالة التململ السائدة والتي تأكدت بعد التناول السلبي من قبل الصحافة، وأغلبية المغاربة، لطقوس البيعة التي باتوا يعتبرونها إهانة للشعب المغربي. مستقبل الاستقرار السياسي في المغرب بات مرهونا بمدى استجابة القصر لمطالب إصلاح الملكية التي يرفعها المغاربة، وتبدو عملية التغيير عسيرة وبطيئة، فقسم كبير من الطبقة السياسية المغربية يقع تحت نفوذ القصر، وحتى الإسلاميون الذين يقودون الحكومة الآن يعتبرون جزء من الأدوات السياسية التي يستعلمها الملك، وهو ما يجعل بعض الأحزاب السياسية تتصدى لعملية التغيير، كما أن سوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي لا يترك للقصر هامشا واسعا للمناورة ولعل ذلك من الأسباب التي تجعل الملك يصر على عدم التنازل في المرحلة الحالية عن صلاحياته وحتى عن شكليات النظام الذي يمثله حيث تعتبر البيعة ركنا أساسيا فيه، ويعتقد القصر أن تقديم مزيد من التنازلات قد يشجع الشارع على التجرؤ على المطالبة بتغيير عميق قد لا يستثني النظام الملكي في حد ذاته، وهو أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة لملكية تتحكم في كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد وتتحمل مسؤولية مباشرة في قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان والتضييق على الحريات.