صدرت للروائي العراقي صادق جواد الجمل، رواية تحمل عنوان "لا الناهية" عن دار المرتضى، في 192 صفحة من الحجم المتوسط، وهي الرواية السادسة له، وحاول فيها استعادة صور عن بغداد القديمة، وهي حافلة بأسماء الأدباء والمثقفين، وقد جعل الروائي من الفترة الممتدة بين 1950 و1980 زمنا لأحداثها. تدور أحداث الرواية، من الناحية الزمنية، بين سنوات 1950 إلى 1980، أما الأماكن التي شغلت فضاء السرد فيها، فتلخّصت بشكل أكبر في مكانين، كانا مسرحا لكثير من الأحداث، هما محلتا الفضل، وباب السيف، البغداديتان القديمتان، بينما شخوص العمل هم إبراهيم أبو الكبة وأسرته التي تركت محلة الفضل هاربة من شؤم البيت، بعد وفاة ربّ الأسرة إلى محلة باب السيف لتستأجر بيتا فتظهر أولا شخصية حامد البلام الذي يحوز على الصفحات الأولى من الرواية، كونه العاشق لعالية، ابنة إبراهيم أبو الكبة، الذي يمنحه المؤلف فسحة العشق والزواج، إلا أن شخصية البطل تتحوّل إلى مجيد ابن إبراهيم أبو الكبة، الذي تدور حوله الشخصيات، ويكون محور الأحداث، عبر رسم علاقته بأسرته والمحلتين التي يعيش فيهما، وعلاقاته الثقافية التي يجعل منها المؤلف انطلاقات نحو التذكير بالعديد من الشخصيات الثقافية العراقية التي لها حضورها الواضح في الساحة الثقافية، أمثال الجواهري وبلند الحيدري وعبد الله كوران وذو النون أيوب ومحمد مهدي البصير وعلي الحلي وشاذل طاقة وشفيق الكمالي وعبد الستار ناصر وجبرا إبراهيم جبرا وحسين مردان، وعبد الأمير الحصيري، وغائب طعمة فرمان محمد بهجت الأثري وموسى كريدي، وينقل عنهم حكايات من مقهى البرلمان ومقهى الزهاوي والبرازيلية وحسن عجمي، متجسّدة في علاقتهم مع مجيد أبو الكبة، الشاعر الذي يعترف أنه متذوّق للأدب والشعر، ويكفيه أن يكتب ما يجول بخاطره ولم يفكر بالنشر، أو المثقف الذي يمتلك مكتبتين؛ إحداهما في بيته والأخرى في دكانه، وعبرهما تتضح العديد من صور الحياة البغدادية، سواء تفصيلات المكان أو العلاقات الاجتماعية، فيما يذكر العديد من الشخصيات مثل الملحن صالح الكويتي وجلال الحنفي ونازك الملائكة، كما أنه يشير إلى أحداث سياسية مؤثرة في أحداث الرواية، مثلما يذكر فيما بعد ذكرى رحيل المطرب عبد الحليم حافظ. يبدو أن المؤلف أراد أن يوضّح ما كانت عليه البيئة الشعبية من ملامح في العلاقات العامة والخاصة وطبيعة ما كان يحدث فيها، واستذكار زمن كان فيه لمطرب مثل عبد الحليم، على الرغم من مرور ثلاث سنوات على وفاته، إلا أنه كان يجمع العاشقين، وقد جمع بين أحمد وشمس، اللذين التقيا على أغنية بذكرى وفاته، مثلما كان المؤلف يؤكد على العلاقة الطيبة بين المثقفين أنفسهم وروعة الأحاديث فيما بينهم، فضلا عن تواضعهم وبساطتهم. تتناول الرواية حكاية مجيد أبو الكبة، مثقفا وإنسانا بسيطا طيبا، يعيش مع أمه الطاعنة في السنّ التي تزوّجه من الفتاة التي تزورها لتساعدها في أعمال البيت وتنّجب له ولدين، لكنها تتغيّر من ناحيته وتحاول أن تسيطر عليه وتقارن بين الكتب الكثيرة المرصوفة في البيت وبين عدم وجود بيت خاص للأسرة، ما تضطره إلى أن يبيع الكتب كلها من أجل ترميم البيت في محلة الفضل، والطريف أنه جلس في ركن غرفته العارية إلا من أثاث بسيط وأخرج دفتر حسابات البناء، يقارن بينها وبين أسعار الكتب، فتخيل أن الأبواب اشترتها زوجته من دنانير دواوين المتنبي وأبي فراس الحمداني والمعري والحطيئة وأبي تمام والبحتري وأبي نؤاس، ومحاولته النظر في جهات البيت المرممة بمبالغ بيت الكتب الثمينة التي افتقدها، فتتغيّر أحواله نحو الأسوأ، حتى تم وصمه بالجنون، وصار محط سخرية الأطفال الذي يركضون خلفه ويتضاحكون منه، وصار يخاف الخروج من بيته إلا في أوقات يخلو فيها الزقاق من الناس والأطفال، فيما زوجته في لحظة تجد نفسها منجذبة إلى احد الأشقياء وتمنحه نفسها، فيعلم بذلك زوجها الذي يسرّ أحد أصدقائه من الأشقياء، فيقوم باستدراج الشقي ذلك، ومن ثم قتله، لكن الشائعة التي تكبر تؤكد أن مجيد هو الذي قتل هذا الشقي، على الرغم من استغراب البعض لضآلة جسم مجيد أبو الكبة الذي يختبئ، لأن السلطة تبحث عنه لأنه هارب من أداء الخدمة العسكرية، فيذيع صيته كبطل فيهابه الجميع وحين يجد أن الحكومة تعرف أنه بريء ولم يقتل الأشقياء الذين قتلت منهم الحكومة الكثيرين، يدور بينه وبين الضابط الشاب أحمد حديث طويل . لكن الناس لا تعرف مسألة الهروب من الجيش بقدر ما تعرف أنه هو الذي قتل ذلك الشقي، فيظهر على الناس مهابا، ليدخل المحلة ظافرا، لكن على قدر من التواضع لأنه لم ينس أنه مثقف وعليه أن يعامل الناس بما تعلمه من الكتب، والناس تهلل له وتحترمه، وهنا يؤكد الكاتب أن الثقافة هي المنتصرة. Share 0 Tweet 0 Share 0 Share 0