لم تقف الفضائح المسجلة على دفاتر القطاع التربوي مؤخرا، عند سلسلة الإضرابات المتكررة أو هاجس السنة البيضاء المهدد لمستقبل الآلاف من التلاميذ، بل إن قتامة الصورة وصلت في بعض جزئياتها إلى وضع أصبح فيه الجزائري يتخوف من إرسال أبنائه إلى مدارس بن بوزيد لما تحويه هذه الأخيرة من مظاهر وسلوكيات، أضحت تشكل خطرا محدقا ليس على مستوى التحصيل العلمي لهؤلاء التلاميذ فحسب وإنما حتى على شخصيتهم وسلوكهم المستقبلي، وهي الحقيقة المؤسفة التي وقفت عليها ''البلاد'' بمتوسطة ''بوشاوي المركزي'' المجاورة لمصنع خمور أدخل معظم تلاميذها في دوامة الإدمان على الكحول والمواد المسكرة. تلاميذ ضحايا مافيا بيع الخمور تحول الطريق الفاصل بين المؤسسة التربوية ومصنع الخمور إلى سوق للتجارة غير الشرعية لصرف وتسويق المنتجات الكحولية، والتي يعد التلميذ، زبونها الأول والأخير، حيث كشف لنا بعض المراهقين الذين يزاولون دراستهم في متوسطة ''بوشاوي المركزي''، أنهم ''شهود عيان على الصفقة القذرة التي تجمع بعض عمال المصنع مع التلاميذ''، مضيفين ''في الحقيقة، عندما نستيقظ باكرا على أمل التوجه إلى المتوسطة بغرض الدراسة طبعا، ينتابنا شعور قوي بوجوب المقاطعة، لسبب واحد وهو أننا لا نشعر بوزن المؤسسة التربوي بسبب مقرها المحاذي لمصنع الخمور، وهنا نلمس تناقضا واضحا وهو ما أثر سلبا على مردودنا الدراسي''. وخلال بحثنا عن عينة التلاميذ الذين وقعوا في فخ الشبكة المافيوية التي تترصد بضحيتها البريئة عن كثب، وجدنا (م.ط) 13 سنة، كان يقبع بجوار المصنع لعله يفوز بزجاجة خمر عن طريق الصدفة. عندما اقتربنا منه، أبدى انفعالا شديدا خصوصا عندما شرحنا الموضوع المطروح حيث أنكر في بداية الأمر إلا أن إصرارنا القوي على معرفة ما تخفيه تصاميم وجهه التي تغيرت بفعل الكحول بالرغم من صغر سنه، إلى جانب فك شفرة ''الأبواب الحديدية'' المحكمة لهذا المصنع ونقل الحقيقة بموضوعية إلى الرأي العام والسلطات المعنية، ردع صمته وفك عقدة لسانه ليروي لنا طريقة حصوله على قارورات الخمر المسربة من المصنع، ''كنت أتوجه إلى المدرسة في الصباح الباكر، أي في وقت خروج الشاحنات الكبيرة المحملة بقارورات الخمر من المصنع المقابل، وبدافع الفضول وضغط من بعض الرفاق، توجهت إلى المصنع من بابه الخلفي - المقابل للمدخل الرئيسي للمتوسطة سابقا- لجس النبض ومعرفة سعر الزجاجة، ليتبين أن هذه الأخيرة في متناول الجميع بالرغم من جودتها''، وقاطعه الحديث أحد أصدقائه (س.ك)، 16 سنة، الذي كان مارا والتقط سمعه جزءا من المناقشة قائلا ''نعم، فأنا شخصيا اقتنيت زجاجة من الحجم الصغير ب125 دينار فقط، وسابقا كنت أحصل عليها عن طريق السرقة من الشاحنات التي تركن بمحاذاة مدرستنا''، وهنا توقفنا لمعرفة من المسؤول عن عملية بيع أو تسويق المنتجات الكحولية في الوسط المدرسي، ليذكر لنا (ح.د)، 14 سنة ''لقد عشت هذه التجربة لدرجة أصبحت فيها مدمنا على تعاطي الخمر، والسبب يعود إلى هذا المصنع، حيث يقوم بعض العمال، وأظن أنهم ينشطون كأعوان أمن تابعين له، بإخراج السلع من الباب الخلفي المقابل للمتوسطة التي ندرس فيها، وإعادة بيعها في سرية تامة وبأسعار تقل بكثير عن قيمتها المالية الأصلية''، مسترسلا ''يمكنني القول وبصراحة أن المدرسة التي ترونها اليوم قد تحولت إلى مجمع يأوي العديد من المنحرفين بسبب الآثار السلبية لهذا المصنع، كما استطيع أن أؤكد لكم أن هناك عدد كبير من التلاميذ يتعاطون الخمر باستمرار وقد يقبلون على السرقة في الكثير من الأحيان لتأمين المبلغ المطلوب، وهو ما حدث معي شخصيا، مقابل الحصول على قارورة خمر واحدة أو يقومون بما نسميه ب'' حملة تيليطون'' لجمع المال ثم التداول على شرب قارورة الخمر'' . وقد تفاجأنا عند علمنا أن هؤلاء التلاميذ قد وجدوا مكانا آمنا لتخبئة ''القارورات السحرية''، والذي يتموقع مباشرة وراء المؤسسة وأطلقوا عليه اسم ''الخزنة''، ليتحول هذا الاسم إلى رمز سري يتداوله ''ضحايا استهتار المصنع'' جهرا عند الحاجة إلى تعاطي الكحول. ''الانحراف'' يهدد مستقبل المتمدرسين ضعف ''السنة البيضاء'' ولاستكمال أطراف المعادلة، دخلنا متوسطة ''بوشاوي المركزي''، لرصد آراء وانطباعات ومواقف الإدارة والأساتذة حيال ما يجري في المحيط الخارجي من ''تلاعبات دنيئة'' صوبت سهامها مباشرة نحو التلميذ الذي يتواجد في مرحلة حساسة ترتبط بإثبات الذات وزيادة نسبة الفضول والاندفاع نحو المغامرة. ومن الأمور التي لفتت انتباهنا وعمقت بؤر الإبهام في أذهاننا، هي جهل الكثير من الأساتذة لما يحدث في المحيط الخارجي للمؤسسة، بل والأدهى من ذلك هو إيمان هؤلاء بعقيدة وحيدة تدعى ''الإضراب''، حيث بمجرد ذكر هويتنا وقبل معرفة الأسباب الكامنة وراء وجودنا بالمتوسطة، انطلق كثيرهم في إصدار تعليقات وقراءات عن مجريات الساحة النقابية وتماطل وعود الوصاية والغليان الذي يعيشه القطاع التربوي عموما منذ عدة شهور، لكن عندما أفصحنا عن هدفنا المرجو من هذه الزيارة، لاحظنا أن بعضهم لا يفقه في التداعيات المثيرة والخطيرة التي صاحبت تواجد مقر مصنع الخمور بمحاذاة الاكمالية، حيث أعلنوا لنا وبشفافية أنهم ''ليسوا على دراية بأن المتمدرسين يقومون بشراء الخمر من أياد وسخة تعمل بالمصنع''. إلا أن أحد أساتذة اللغة العربية فجر الأمر قائلا ''هناك تلاميذ يتعاطون الكحول في سن مبكرة لكن ما يجب مناقشته في الوقت الراهن، ليس كيفية وأسباب التعاطي لأن ذلك يعد واضحا في أعين الجميع، ماذا ننتظر من مراهق يدرس في متوسطة مقرها يقع جنبا لجنب مع مصنع الخمور، بل الجدير بنا كمربين أن نصيغ حلولا للمأزق والوضع الكارثي الذي أضحى يهدد مستقبل التلاميذ أكثر من شبح السنة البيضاء''، مشيرا إلى أن المؤسسة التربوية تستقبل سنويا تلاميذ جدد، ويجب حمايتهم لتفادي وقوعهم كضحايا آخرين في ''لعبة المافيا''، ''والحل الوحيد لإنقاذ ما صلح هو ضرورة الإسراع في اتخاذ إجراءات فعالة على مستوى وزارة التربية''. أما معلمة اللغة الفرنسية فقد كشفت من جانبها عن التأثير النفسي لتواجد مقر المصنع بمحاذاة الإكمالية قائلة ''عندما طلبت من التلاميذ أن يقوموا بتحرير نص إنشائي عن المحيط الخارجي لمدرستهم، تفاجأت بتركيزهم على مصنع الخمور بالرغم من تواجد مقر للدرك الوطني وملحق إداري للبلدية وهو ما يعكس تأثرهم الشديد بالمصنع كمراهقين وذلك جراء النشاطات التي يمارسها''. أما أستاذة في العلوم الطبيعية، فقد حملت كامل المسؤولية للجهات المعنية التي كانت وراء بناء المتوسطة بمكان يقابلها مصنع للخمور في الوقت الذي تتوفر فيه المنطقة على فضاءات أخرى موجهة للبناء وبعيدة كل البعد عن المصنع، موضحة أن ''تاريخ بناء المصنع استبق تشييد المدرسة بعدة سنوات، كونه يعود إلى المرحلة الاستعمارية''. وزارة التربية في ''سبات'' على الخط من ناحيته، أكد مدير إكمالية ''بوشاوي المركزي'' ل''البلاد''، أن ''الإدارة قامت بمراسلة مديرية التربية الوطنية لولاية الجزائر العاصمة لوضع حد للكارثة التي استهدفت التلاميذ، باعتبار أنها الجهة المسؤولة الأولى، وذلك في العديد من المرات، إلا أن هذه الأخيرة لم تحرك ساكنا ولم يصلنا منها أي رد''، مضيفا ''وعندما لمسنا اللامبالاة من الجهات المعنية سواء المحلية أو الأمنية، اتخذنا إجراءات وقائية بتغيير المدخل الرئيسي للإكمالية من الجهة المقابلة للمصنع إلى الجهة الخلفية للمؤسسة''. وذكر المتحدث ''أن الإدارة قامت بضبط سبع تلاميذ في حالة سكر، أحدهم كان يحمل قارورة خمر داخل محفظته التي كان من المفروض أن تحوز على أدوات مدرسية لا غير'' معتبرا أن ''هذا الرقم لا يعكس عدد التلاميذ الذين يتعاطون الخمر على مستوى المؤسسة، بل هناك الكثير منهم من يقوم بتناول الخمر خارجا، والغريب أنه وسط هذه الأحداث الخطيرة، تبقى جمعية أولياء التلاميذ مجمدة، لا تسمن ولا تغني من جوع حيث لم تقم باتخاذ أي إجراء حول الموضوع بالرغم من أن الضحايا هم بالدرجة الأولى، المتمدرسون ومردودهم الدراسي عموما''. إدارة المصنع تتوعد بضبط الجناة وسعيا منا للحفاظ على مبدأ نقل الأحداث بموضوعية ورصد انطباعات جميع الأطراف، توجهنا إلى المتهم الرئيسي في هذه المأساة، واخترقنا الحدود، التي يضعها المسوقون للمادة الكحولية بطريقة غير شرعية ودون علم إدارة المصنع بذلك، حيث أكد لنا مصدر مسؤول من مصنع الخمور ببوشاوي، ''أن عملية بيع الخمر من مؤسستهم إلى الوسط المدرسي تتم دون علمهم، لأنه في حال ثبوت ذلك لدى الإدارة العامة ستقوم بفصل المشتبه فيه مباشرة وإحالته على القضاء، وسيتم التحقيق في الأمر''، وبالرغم من أننا لم نستصغ هذا الرد، لأن إخراج السلع يخضع لنظام الفوترة، وهو نمط دقيق في إجراء حسابات أي مؤسسة، ولكن يمكن تبرير عمليات بيع المنتوج الكحولي في السوق السوداء ودسه وسط المتمدرسين من طرف ''جماعات المافيا''، التي تجهل إدارة المصنع هويتها، عن طريق سرقته قبل إخضاعه للتحاليل والمعاينة اللازمة ثم المصادقة عليه كسلعة موجهة للاستهلاك.