يمر السودان بأصعب مرحلة انتقالية في تاريخه السياسي المعاصر، فبعد إجراء الانتخابات المتعددة سينتظر الشعب السوداني ومعه المراقبون الدوليون المنعطف الخطير مع حلول سنة 2011 لإجراء الاستفتاء حول انفصال الجنوب عن الشمال أو الاندماج والوحدة، فما هو السيناريو الأفضل للسودانيين؟ وما هو السيناريو الذي يبدو أنه أقرب للواقع؟ يجب أن نقر منذ البداية بأن السودان الدولة القارة لديه كل عناصر القوة لبناء دولة مستقرة من مساحة جغرافية تصل إلى مليونين ونصف المليون كلم مربع إلى موارد طبيعية وثروة حيوانية متنوعة جعلته يوصف بالسلة الغذائية التي تطعم الوطن العربي والجيران في إفريقيا، حيث تفوق نسبة الأراضي الصالحة للزراعة 40 بالمائة من المساحة الإجمالية. لم يستغل منها أقل من 16 بالمائة من إجمالي تلك الأراضي الصالحة للزراعة، وهو ما يجعل السودان تصنف ضمن الاحتياطي الإستراتيجي للأمن الغذائي في المنطقة. لكن عناصر القوة هذه لم تترجم إلى قدرات حقيقية تعطي هذا البلد استقراره الداخلي بسبب الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال التي دامت أكثر من عشرين سنة وظفت فيه الطائفية والإثنية والدين بين المسلمين في الشمال والمسيحيين في الجنوب، ولم تنته هذه الحرب الأهلية إلا بعد دفع فاتورة غالية تجاوزت المليونين قتيل، استطاع من بعدها السودانيون أن يصلوا في 2005 إلى اتفاق السلام الشامل الذي يحدد مستقبل الدولة السودانية بمرحلة انتقالية هي على وشك الانتهاء بعدما تم تقسيم السلطة وتوزيع الثروة كما حددتها اتفاقية نيفاشا للسلام، حيث تقاسمت القوى السياسية الفاعلة في الشمال والجنوب المناصب التنفيذية والمقاعد التشريعية بما يعطي الإغراء بالوحدة الجاذبة للشعب السوداني، واستطاعت دولة السودان أن تكرس مبدأ توزيع الثروة بطريقة عادلة مثل أن يتم تقسيم العائدات الصافية للنفط بالتساوي بين الشمال والجنوب. فالانتخابات التي شهدها السودان في شهر أفريل ,2010 تعد بمثابة الاختبار الأول لبناء السلام النهائي وإن كان هذا الامتحان قد أعابته بعض الدوائر الغربية مثل الاتحاد الأوروبي وواشنطن وباريس مع مؤسسة كارتر للسلام التي أرسلت 70 مراقبا لمتابعة الانتخابات، والعيب الوحيد في هذه الانتخابات الذي اجتمعت حوله الدوائر الغربية يتمثل في أنها لم تستوف المعايير الدولية، وهنا يجب أن نتوقف قليلا لنتساءل ما المقصود بالمعايير الدولية؟ وهل يمكن مقارنة الانتخابات التي جرت في السودان بنظيرتها في البلدان الإسكندنافية أو الأوروبية؟ لأنه ببساطة البيئة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية للسودان هي حالة فريدة من نوعها ولا يمكن البحث فيها عن المعايير الدولية، على المستوى السياسي والأمني تصنف السودان بأنها تمر بمرحلة الانتقال الديمقراطي حيث تختبر القوى السياسية قدرتها على الانتقال من مرحلة العنف المادي والسياسي الذي طبع السودان بعد الحرب الأهلية ومحاولة الانفصال في دارفور إلى مرحلة الانتقال السلمي للسلطة عن طريق التحكم لصناديق الاقتراع والقبول بنتائجها النهائية، وهذا هو المحك الحقيقي لاختبار درجة وعي الجميع بالمسؤولية السياسية التي تنتظر السودانيين، فهل تقبل المعارضة التي قاطعت الانتخابات وعلى رأسها حزب الأمة التاريخي الذي يقوده صادق المهدي بالنتائج النهائية التي ستعلن في الانتخابات المتعددة؟ وهل تقبل القوى السياسية الأخرى مثل التيار الإسلامي الذي يقوده حسن الترابي بتلك النتائج بعدما شكك في الفوز الساحق للحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية والجهوية؟ كما أنه من الناحية الاجتماعية فإن الشعب السوداني الذي يعيش غالبية سكانه بنسبة تفوق 60 بالمائة على الزراعة والرعي هو أقرب للمجتمع الزراعي الذي يحكمه منطق التقاليد والأعراف القبيلة وليس منطق القيم الغربية التي تعطي للحرية الفردية قيمتها الأساسية وتحاول أن تجعلها قيما عالمية، فالفرد في السودان مثله مثل المجتمعات الشرقية لا يزال حبيس منطق الجماعة التي هي أقرب للعصبية الخلدونية التي تجتمع حول زعيم القبيلة باسم القرابة والعصبة. وحتى المعايير الدولية التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر هي لا تأخذ في الحسبان نسبة الأمية التي تتجاوز 70 بالمائة في السودان، وربما لا يعلم كذلك أن السودانيين غير مهتمين بالوثائق الإدارية وهي الصعوبة التي صادفتها مفوضية الانتخابات الوطنية في السودان التي أشارت إلى أن مليون ونصف مليون سوداني فقط يملكون بطاقة إثبات الهوية من أصل 16 مليون ناخب، وإذا أضفنا هذا العامل إلى عامل الأمية في السودان فإن المعايير الدولية ستسقط خصوصا وأن هذا المواطن الذي لا يحسن التعامل مع الأوراق الإدارية سيذهب لصناديق الاقتراع وبيده ثمانية أوراق انتخابية في الشمال وإثنى عشرة في الجنوب، ليختار ستة أصناف من المترشحين في نفس الوقت، يختار رئيس الجمهورية، وينتقي أعضاء المجلس التشريعي الوطني من بين 73 حزبا ومستقلين، ويصوت على الولاة، ويميز بين الأعضاء المرشحين للمجالس التشريعية المحلية، كما يختار أهل الجنوب إضافة لهؤلاء رئيس الحكومة المحلي، وبالتالي سيكون السوداني أمام أعقد انتخابات الكثير منهم لا يفقه إلا لغة الإشارات والرموز، وهذه هي القضية التي يجب أن تطرح في مسألة التحول الديمقراطي في السودان، التي يغيب فيها الوعي السياسي والإدراك بمفهوم الثقافة السياسية، وإن كان أهل السودان قد شاركوا بنسبة فاقت 60 بالمائة في الانتخابات وهذا من منطلق التحديات الخارجية التي وظفها المرشح عمر البشير لصالحه، عندما هاجم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت دعوة بالقبض عليه لمحاكمته فيما ادعت بتورطه في جرائم الإبادة والتطهير العرقي في دارفور. يبقى التساؤل الذي طرح في البداية، ما هو السيناريو الأفضل للسودانيين بعد جانفي 2011؟ ربما قد نحدد هذا المستقبل في سيناريوهين، الأول نسميه بسيناريو الروائي السوداني الراحل طيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال بصيغة أن تكون الوحدة للجنوبيين هي الخيار الجذاب بعد تجربة انتقالية دامت خمس سنوات استطاعت السلطة المركزية في الخرطوم أن تضمن تقاسم السلطة مع الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان وأن توزع الثروة بطريقة عادلة، وهي تجربة قد تدفع أكثر للوحدة أثناء الاستفتاء، لكن أمام هذا السيناريو الذي قد يشهد موسم هجرة أهل الجنوب نحو الشمال لتعزيز الترابط الاجتماعي والاندماج التنموي، فإن السيناريو الذي يسير معه في نفس الاتجاه يتمثل في خيار الانفصال، ومؤشراته في الواقع كثيرة، أهمها الإغراء الذي قد يدفع أهل الجنوب للاستفراد بالموارد النفطية التي توجد معظمها في أراضيه، مع الدعم الذي تتلقاه بعض القوى السياسية في الجنوب من قبل دوائر إقليمية ودولية بدافع المصلحة، خصوصا الجماعات النفطية التي لا ترغب بالتواجد المكثف للشركات النفطية الصينية والآسيوية التي تستحوذ على صفقات استغلال النفط في السودان، وحالة الانفصال قد تعيد ترتيب الصفقات لصالح الشركات الأمريكية والفرنسية والبريطانية كما حدث في النموذج العراقي بعد صدام حسين، في الوقت نفسه تدفع الجماعات المسيحية الصهيونية بعض التيارات المسيحية في الجنوب نحو الانفصال بدافع استراتيجي لتفكيك القوى المعادية لإسرائيل لاستكمال بناء الحزام الأمني في منطقة القرن الإفريقي من جنوب السودان إلى كينيا وإثيوبيا والصومال وربطها بالمصالح الإسرائيلية في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن. يبقى أن نحلم للسودانيين بسيناريو الهجرة نحو الشمال لأن سيناريو الانفصال كما قال الرئيس التشادي إدريس دبي سيكون كارثيا على القارة الإفريقية لأن كل دولة فيه تملك شمال وجنوب مسلمين ومسيحيين، وحالة الانفصال قد تغري جماعات إثنية أخرى للمطالبة بنفس النموذج خصوصا حالة دارفور التي لا تزال مطروحة بقوة في السودان. وكما خرج أهل السودان بمسيحييهم ومسلميهم، بعربهم وإفريقييهم لتوديع الروائي العالمي طيب صالح إلى مثواه الأخير نحلم بالسيناريو ذاته أن يكون الاستفتاء لصالح الوحدة السودانية، لكن بين الأمل والواقع نبقى ننتظر ونترقب.