صحفي الشروق رفقة زعيم حزب الامة الحل تصنعه جميع الأطراف وليس الحزب الحاكم وحده النظام السوداني تورط في جرائم دارفور بشهادة التحقيقات الحكومية نفسها يكشف الإمام الصادق المهدي، في هذا الحوار الخاص ب"الشروق"، بعض خلفيات ما يحدث في السودان اليوم ويهدد مستقبله كبلد آمن وموحد، من وجهة نظره كزعيم لأكبر حزب سوداني معارض من جهة، وباعتباره رئيس حكومة أسبق للسودان من جهة ثانية، وإماما لتنظيم "الأنصار" من جهة ثالثة، وهو هيئة دينية تتجاوز امتداداتها السودان نفسه. * * مشاكل السودان لها حلول لكن أطرافا في الحكومة تعرقلها * هناك مساحة من الحرية والتعددية لكن النظام لا يزال شموليا * * كثر الحديث عن السودان ومشكلاته في وسائل الإعلام، ونريد أن نقترب من هذا الواقع المُلغّم عبر بوابة زعيم "حزب الأمة"، فما الذي يحدث في أكبر بلد إفريقي؟ * إن مشكلة السودان الأصلية تأتي من أمرين: الأمر الأول هو قيام سلطة عندها برنامج أيديولوجي حزبي إسلامي تريد تطبيقه على مجتمع متعدد الأديان والثقافات والجهويات، وهذا النوع من الطرح الأيديولوجي الحزبي خلق من البداية استقطابا حادا. والمشكلة الثانية هي وجود نظام دكتاتوري حل الأحزاب والنقابات وفرض إرادة فوقية، ومشاكل السودان الحالية في رأيي تنبع من هذين المصدرين. * لقد كانت هناك مشاكل في السودان قبل هذا الانقلاب في يونيو 1989، لكنها كانت محدودة، وفي ظل الاستقطاب الثقافي والسياسي هذا تأزمت المشاكل تأزما فظيعا وتحولت إلى نزاعات عنيفة جدا وصلت إلى حد الصراعات المسلحة واستدعت التدخل الأجنبي. * * ما هي أشكال هذا التدخل الأجنبي الذي تتحدثون عنه؟ * التدخل الأجنبي أخذ أشكالا مختلفة، أول شكل منها هو عندما وصلت حالة الصراع إلى حرب أهلية وتم التفاوض من أجل اتفاقية سلام استدعيت الأممالمتحدة فيها كضامن ومراقب، ولكن ضامن ومراقب مسلح بعشرة آلاف جندي أجنبي مسلح. * أما الوجه الآخر، فقد ظهر عندما نشأ نزاع مماثل في دارفور وارتكبت فيه فظاعات وتعديات على حقوق الإنسان، مما أدى إلى تدخل دولي أيضا. * * ومن ارتكب هذه الفظاعات برأيكم؟ * الدولة هي التي ارتكبت هذه الفظاعات بصورة أو بأخرى.. وهذا ليس مجرد اتهام تطلقه الأجهزة المعادية، وإنما تم توثيق هذا عن طريق جهتين: لجنة دولية برئاسة قاض إيطالي وبعضوية أغلب دول العالم الثالث زارت السودان وكتبت بطريقة موثقة عن هذه التعديات وجرائم الحرب، وكذا تكونت لجنة أسستها الحكومة السودانية وترأسها القاضي دفع الله الحاج يوسف الذي وثّق وجود هذه الأشياء. فهناك إذن تجاوزات ارتكبتها الحكومة، وهناك تعديات ارتكبتها القوى المسلحة المعادية. وأدى هذا كله إلى قرار مجلس الأمن 1593 القاضي بأن هذه التجاوزات يجب تحويلها للمحكمة الجنائية الدولية للنظر والبتّ فيها. * السودان الآن يعاني تمزقا كبيرا في مناطق كثيرة، ويعاني تدخلا دوليا خطيرا، فهناك ما لا يقل عن 30 ألف جندي أجنبي في الجنوب وفي مناطق في الشمال وفي دارفور، وهذه وحدها ظاهرة خطيرة، وأعني هنا التمزق والتدويل. * هناك الآن خطى متفق عليها سوف تحقق تغييرا في السودان بصرف النظر عن هذه العوامل، أولها ضرورة إجراء انتخابات عامة وحرة، وفيه ما فيه من إمكانية تغيير الحكم عن طريق الانتخابات، والخطوة الثانية ضرورة إجراء استفتاء للجنوب: هل يبقى تحت مظلة السودان الموحد أم يريد الانفصال. * عندنا تشظًّ خطير.. وتدويل خطير.. عندنا خطوة انتخابات ليست عادية لأنها انتخابات تسمح بالانتقال من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي، ومع أن السودان الآن فيه درجة من التعددية ومساحة من الحرية ولكن ما زال القوانين والإجراءات تتحكم فيها الشمولية، ولكن تم الاتفاق على أن تكون هذه الخطوة خطوة انتقال من هذه الحالة إلى حالة فيها كفالة الحريات والاعتراف التام بالتعددية والتناوب السلمي على السلطة عبر الانتخابات. * * عود على مشكلة دارفور.. الحكومة تقول إنها أوشكت على حل المشكلة نهائيا، فهل هذا الأمر من وجهة نظركم صحيح؟ * هذا ليس صحيحا، فمشكلة دارفور لا تزال معقدة وهناك محاولات لا تزال في رأيي محدودة. * * وكيف الحل في تصوركم لهذه المشكلة المُعضلة؟ * المشكلة في رأيي حلها سهل، لكن هذا الحل لابد له من استحقاقات، والنظام الحاكم اليوم غير مستعد لأن يدفع هذه الاستحقاقات. * * وما هي هذه الاستحقاقات التي تشيرون إليها؟ * أعتقد أن هناك ثلاثة استحقاقات: أولا: كان إقليم دارفور واحدا وليس ثلاثة كما قسموه الآن، وكان للإقليم ممثل في رئاسة الدولة.. وأراضيه كانت تديرها القبائل، لكن كل هذه الأشياء تغيرت، والمطلوب العودة إلى ما كان عليه الأمر قبل التغيير، وهذا ضروري كجزء من استحقاقات اتفاق السلام. * النقطة الثانية هي أنه أثناء الحرب والنزاعات في دارفور، كثير من السكان في دارفور، ويُقدرون بين مليون ونصف إلى مليونين، هجروا قراهم واستقروا في معسكرات نازحين ولاجئين خارج السودان.. هؤلاء عانوا من بيوت أحرقت وممتلكات صودرت ومدارس خُربت وآبار دفنت.. فهم يحتاجون إلى تعويض فردي بسبب ما فقدوه من ممتلكاتهم وتعويض جماعي لما تعرضت له مدارسهم ومستشفياتهم من التهديم والتخريب. والنقطة الثالثة هي ضرورة الاعتراف بالإقليم، لأنه صارت فيه عصبية إقليمية، والإقليم يستحق أن يمثل في السلطة وأن يستفيد من الثروة بنسبة عدد سكان الإقليم. * هذه المطالب الثلاثة معقولة وممكنة وضرورية، لكن حتى الآن الحزب الحاكم لا يوافق على هذه المطالب، وفي رأيي ما لم يُستجب لهذه المطالب على هذا المستوى لا يوجد هناك حل. * كما أن النظام يتعامل مع المشكلة باعتبار أنها مع حملة السلاح ولهذا يسعى إلى حل معهم، في حين أن الحل معهم وحدهم لا يكفي لأن فيه تغييبا للآخرين والتغييب لن يؤدي إلى استقرار، والتوجه نفسه يجب أن يكون للاتفاق مع كل مكونات دارفور السياسية والمدنية والقبلية والمسلحة.. وهذا حتى الآن غير مخطط له، فما يحصل الآن هو مقابلات مع بعض حملة السلاح كما حصل في سيرت وكما يحصل في الدوحة ومناطق أخرى، لكن هذا في رأيي غير كاف وغير صحيح في نفس الوقت، فلابد من أن تكون النظرة أكثر إحاطة. * حتى الآن، تبقى مشكلة دارفور مستعصية على الحل لسببين رئيسيين: الأول عدم الاستعداد لدفع استحقاقات الحل، والثاني أن إطار الحل غير متوافر، لأن بحث الحل يتم مع أطراف محدودة، بينما يجب أن يكون الحل في إطار جامع لكل مكونات دارفور، وطالما أن هذا الأمر غير متوفر، فالمشكلة لن تُحل. * * لكن قد يسأل السائل ويقول بما أن خطوات الحل معروفة والاستحقاقات كذلك واضحة، والحكومة نفسها تبدي استعدادها ونيتها لحل نهائي للمشكلة، فما الذي يمنعها من الدفع بمسار الاستحقاقات في سبيل حل يقي السودان مشكلة كبيرة جدا تهدد أمنه القومي ووحدته؟ * عليك أن توجه هذا السؤال إلى الحكومة، أما نحن فإننا مستغربون لم لم يسيروا باتجاه مسار التسوية النهائية للمشكلة.. هذا الكلام نقوله منذ مدة طويلة لكن لديهم تمنّع، قد نُشبه الأمر برجل يريد أن يشتري جملا مقابل 5 دولارات.. إن هذا المبلغ لا يشتري جملا، ومن أراد أن يشتريه عليه أن يدفع ثمنه الحقيقي الذي يعكس قيمته، غير أن الحكومة اليوم لا تريد دفع استحقاقات الحل سوى في إطار ضيق وتسوية محدودة، وهذا غير ممكن. * * هناك أيضا مشكلة الجنوب واستفتاء تقرير المصير.. فهل ستفقد السودان الجنوب في استفتاء 2011؟ * هذا الموضوع تُرك للعلاقة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ممثلة للجنوب والمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) ممثلا للشمال، وبما أن العلاقة بين التنظيمين تدهورت جدا فلو ترك للعلاقة بينهما وحصل استفتاء فسيفكر الجنوبيون أن العلاقة مع الشمال تمر حتما عبر "المؤتمر الوطني"، وإن كان هذا رأيهم فسيصوتون ضد الوحدة باعتبار أن العلاقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وبالتالي بين الشمال والجنوب، بلغت أسوأ حالاتها. * ولذلك نحن نتحرك الآن لنقول للجنوبيين: هناك صوت آخر غير صوت المؤتمر الوطني في الشمال، وهو صوت أكثر عقلانية وأكثر استعدادا لاستيعاب استحقاقات الوحدة.. ولذلك يجب أن لا تكون علاقتكم بالمؤتمر الوطني هي التي تحدد علاقتكم بالشمال.. هناك قوى سياسية أخرى في البلاد أوسع شعبية وأكثر عقلانية وأكثر استيعابا للتنوع في السودان من الحزب الحاكم، وكل مجهوداتنا الآن تصب في أن نقول للجنوبيين: أولا هناك مشاكل كبيرة للانفصال.. وننبههم إليها.. فهناك عدد كبير من الجنوبيين المقيمين في الشمال يُقدّرون بحوالي ثلث عدد سكان الجنوب، وهم يرفضون العودة إلى موطنهم الأصلي، وهؤلاء لا يلائمهم فصل الجنوب وتكمن مصلحتهم في بقائهم في الشمال، والمصلحة هنا مرتبطة بكون عدد كبير منهم وجد فرصة في الشمال للاشتراك في الاقتصاد الحديث واقتصاد السوق، ولو رجع للجنوب فلا فرصة لديه هناك لأنه لا يوجد ثمة مجتمع مدني أو اقتصاد متطور، فكأنما هو يُخيّر ما بين أن يبقى في اقتصاد السوق أو يرجع إلى الاقتصاد المعيشي، وهو سيختار اقتصاد السوق في رأيي لأنه أفضل له. ولذلك هناك عدد كبير من الجنوبيين لن يعودوا للجنوب، وهذه مشكلة وعقبة من عقبات الانفصال. * العقبة الثانية تتمثل في القبائل الرعوية التي ترعى الأبقار في السودان، ويسمّون "البقّارة" (التحرير: نفس التسمية عندنا)، على طول الخط ما بين الشمال والجنوب، وهو خط طويل جدا، حيث تمتد هذه القبائل من أقصى شرق السودان إلى أقصى غربها. هذه القبائل كلها تتنقل في المواسم غير الممطرة نحو الجنوب، وثُقدّرب8 أشهر، وذلك من أجل المرعى والمياه، وهؤلاء لن توجد قوة على ظهر الأرض تردعهم عن هذه الهجرة الموسمية، لاسيما أن عددهم يُقدر ب8ملايين نسمة، فإذا حدث وأن قامت دولة مستقلة في الجنوب فسوف يتعقد الأمر تعقدا شديدا. * العقبة الثالثة هي البترول، وأغلبيته في المناطق الجنوبية، لكن المنشآت المتعلقة بالبترول من مصاف وأنابيب والموانئ متواجدة في الشمال. فصناعة البترول في السودان تفرض نظرة تكاملية. * هذه مشاكل أساسية تعترض سبيل الانفصال، وهذه النقطة التي ننبه لها. * نقول أيضا إن هناك عوامل طاردة في سياسات المؤتمر الوطني، وهذه العوامل ليس من المُحتّم استمرارها ونرى أنه من الممكن تغييرها إذا حصلت الانتخابات وزالت قبضة المؤتمر الوطني، فهنا فيه احتمال أن تكون العوامل الطاردة قابلة للتغيير. * نحن وإن كنا نطرح وجهة نظرنا من زاوية نعتبر أن لها شعبية واسعة، وهي إمكانية معالجة المشكلة بين الشمال والجنوب على أساس وحدة عادلة، إلا أننا في نفس الوقت نعتبر أن فيه إمكانية أن يصوّت الجنوبيون للانفصال، وإن حدث ذلك فيجب أن لا يحدث الانفصال كما حدث بين إثيوبيا وإريتريا، وإنما يكون الانفصال جزءا من الاتفاقية نفسها، بحيث نستطيع أن نقول إن كل مشاكل الانفصال تُحل في اتفاقية تعايش وحسن جوار ما بين الدولتين بطرح فكرة وحدة عادلة وخالية من المشاكل، وإذا حصل الانفصال بتصويت الجنوبيين تكون هناك علاقات خاصة بين الشمال والجنوب، واقترحنا أيضا حلا وسطا بين الوحدة والانفصال، وهو قيام نظام كونفيدرالي، وهذه الأفكار الآن هي التي نسعى لتثبيتها لأننا نشعر أنه آن الأوان لحسم هذه القضايا بصورة واضحة. * * وهل كان ذهابكم إلى مؤتمر جوبا في الجنوب من أجل التأثير على موقف الجنوبيين من قضية الوحدة؟ * علاقتنا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لها جذور عريقة، ولهذا قمنا بزيارة إلى الجنوب قبل مؤتمر جوبا لطرح هذه الأفكار، لكن المؤتمر جاء على أساس فكرة أن السودان كله يعاني مشاكل كثيرة، وليس مشكلة الجنوب والشمال فقط، وذلك مثل مشاكل الحريات والاستفتاء والانتخابات ومشاكل الإحصاء والقضايا الاقتصادية وإقليم دارفور.. هناك قضايا تخص البلاد كلها، وسعينا إلى أن تُحل في إطار وطني إجماعي مع المؤتمر الوطني واتفقنا معه على خطوات تؤدي إلى ما أسميناه "التراضي الوطني"، وينتهي بمؤتمر جامع يلم كل السودانيين، لكن هناك عناصر داخل المؤتمر الوطني نسميهم "الصقور" لا يريدون دفع استحقاقات للتراضي الوطني كما لا يريدون دفع استحقاقات لحل مشكلة دارفور، وهكذا أصبح هذا التراضي مشلولا، إلا أنه على مستوى الأهداف لا يزال موجودا، لأن الحل يجب أن تتوافق عليه جميع الأطراف. * في ظل هذه الحالة، ولجنا موضوع التراضي الوطني عبر البوابة الجنوبية، باعتبار أن مؤتمر جوبا كان ناجحا لأن الحركات الجنوبية دعت له كل القوى السياسية واستقطب أغلبها ما عدا المؤتمر الوطني، لكن على أي حال، الفكرة التي نبعت من مؤتمر جوبا هي أن توصياته ليست حدثا وحيدا، بل هي صيرورة لها ما بعدها، ومن ذلك الاتصال بمن لم يحضر لإشراكه، حيث أن هدف المؤتمر ليس الإقصاء أو الاستقطاب، وإنما توحيد الكلمة، وكما قلنا في هذا الموضوع لا توجد طريقة لحل استقطابي لأن هذا يعقد من مشاكل البلد، والحل الجامع هو الخلاص. * * المؤتمر أقر ضمن ما أقره من توصيات المطالبة بالتصويت بانفصال الجنوب بنسبة 50 بالمائة +1، ألا تشعرون أنكم تورطتم في المشاركة في هذا المؤتمر نتيجة هذه القرارات التي تخدم مطالب الانفصاليين؟ * لا.. وأوضح أن هناك مشكلتين محل خلاف بين الشمال والجنوب: نسبة التصويت، ومن لديهم أهلية التصويت، فتوصلنا إلى حل وسط. * لقد طالبت الحركة الشعبية بنسبة 50+1، وقالت إن المصوتين هم الجنوبيون الذين يعيشون في الجنوب فقط، لا غيرهم، أما الآن فإنهم قبلوا بأن يُشارك كل الجنوبيين، أينما وجدوا، في هذا الاستفتاء. أما نسبة 50+1، ففي رأينا ستخضع لحل وسط مع المؤتمر الوطني، ولكن إذا كان هناك أغلبية جنوبية تطالب بالانفصال، فهناك من العوامل التاريخية ما يُبرر هذا المطلب. * * ولكن، ألا تشكّل قضيتا دارفور وانفصال الجنوب أزمة وطنية قومية تستدعي التكتل والتوحد والاجتماع، بدل الفرقة؟ * هذا ما كنا نقوله منذ البداية.. علينا أن نعي أن كل هذه المشاكل لا حل لها لا في إطار اتفاق شامل لا مجال فيه للخلاف والفرقة أو الإقصاء. نحن مدركون أن قضايا السودان تستدعي حلا جماعيا لا أحاديا، ونحن نقول للجميع "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم".