ترسانة القوانين الجزائرية لم تكف لطي ملف أملاك قدامى المعمرين عاد ملف الأقدام السوداء وسعيهم لاسترجاع ممتلكاتهم في الجزائر مجددا إلى الواجهة، وذلك بعد حادثتين متتاليتين بوهران، والمتمثلتين في شروع شركة فرنسية تدعى "سيفان" في طرد حوالي 60 عائلة من عمارة بنهج الصومام وسط مدينة وهران والتي قطنوا فيها منذ الاستقلال حيث إن من تلك العائلات أسر ثورية وأبناء مجاهدين وشهداء. وحادثة أخرى بحي "سامبيار" العتيق والتي راحت ضحيتها عائلة من سلالة الشيخ الحداد صاحب إحدى أشهر المقاومات للاستعمار الفرنسي بعد أن قامت جمعية دينية مسيحية تعود إلى عهد الاستعمار بطردها من المسكن الذي شغلته منذ بداية الاستقلال. وقد بعثت الحادثتان من جديد آمال الأقدام السوداء وقدامى المعمرين للتمكن من استعادة ممتلكاتهم التي استولوا عليها طيلة فترة الاستعمار الفرنسي، وذلك رغم ترسانة القوانين التي أصدرتها العدالة الجزائرية والتي تحول دون استرجاع هؤلاء للممتلكات التي تخلوا عنها عشية استقلال الجزائر. وكان آخر هذه القوانين التي فصلت في القضية، قانون المالية التكميلي لسنة 2010 في مادته ال 42 والتي نصت على أن "الجمعيات الدينية الأجنبية والشركات الأجنبية والأشخاص الطبيعيين كل منهم من غادر التراب الوطني أدمجت أملاكه وحقوقه العينية بذمة الدولة بقوة القانون"، وسد القانون الذي صادقت عليه الغالبية المطلقة لنواب البرلمان الطريق أمام استرجاع كل من غادر التراب الوطني أملاكه العقارية. وأكثر من ذلك أن القانون نفسه جرم عملية الاسترداد ورتب عقوبات جزائية على كل من يساعد بطريقة غير شرعية في استرداد تلك الأملاك لأصحابها. ذلك هو ما نصت عليه القوانين الجزائرية، غير أن أكثر من 60 عائلة بوهران تواجه مصير التشرد في الشارع من طرف شركة فرنسية وجمعية مسيحية تسمى "تجمع الله لوهران"، بعد أن تمكنتا من افتكاك أحكام قضائية لاسترجاع أملاك عقارية تعود إلى الحقبة الاستعمارية في سابقة خطيرة، مما ترك الانطباع بأن مساعي المعمرين والكولون باتت حثيثة لاستعادة ما فقدوه عشية الاستقلال. طردتهم من بناية قطنوها منذ 1963 جمعية "تجمع الله" المسيحية تشرد عائلة من سلالة "الشيخ الحداد" متشبثا بالمكان الذي ترعرع فيه والذي أنشأ فيه أسرته المتواضعة وكبر فيه أبناؤه، رفض السيد "حداد عبد الناصر" المواطن الجزائري وسليل عائلة المقاوم الشيخ الحداد، رفض أن ينتقل إلى أي مكان آخر واختار أن ينصب خيمة رفقة أسرته أمام البيت الذي كبر فيه وكون فيه أسرته منذ عام 1963، والذي وجد نفسه فجأة مطرودا منه من طرف جمعية مسيحية تسمي نفسها "تجمع الله لوهران"، بعدما توفي شقيقه في خضم منازعاته القانونية مع هذه الجمعية. وحسب ما أورده "عبد الناصر"، والد ل 5 أطفال، اثنين منهم مصابين بمرض، فإن جده انتقل إلى وهران إبان الاستعمار الفرنسي بعد حملة الاعتقالات التي شنتها سلطات الاحتلال الفرنسي ضد كل أقارب الشيخ حداد في شرق الوطن، واستقر في حي الحمري العتيق، وغداة الاستقلال استقر والده في البناية رقم 16 بشارع سبتي بومعراف بحي "سامبيار" العتيق. وشغلت أسرة حداد البناية منذ عام 1963، وفي ذلك المنزل عاش "عبد الناصر" وأخوه "لعمارة" وكونا أسرتين وتقاسما المنزلين. وفي عام 2001، دقت باب أسرة "حداد" محضرة قضائية تخطرهم بضرورة إخلائه على أساس أنه ملك لجمعية مسيحية تسمى "تجمع الله لوهران" والتي تأسست عام 1955 وكانت تمارس نشاطاتها في هذا المقر، مستظهرة وثيقة تدعي ملكية الجمعية للبناية، ومنذ ذلك التاريخ تغيرت حياة "حداد" ودخلت في دوامة قضائية مع الجمعية المجهولة. حيث صدرت لصالح "عبد الناصر" وشقيقه 6 أحكام قضائية بعد أن رفضت محكمة وهران الدعوى المرفوعة لانعدام الصفة، غير أنه في عام 2006 انقلبت الآية، وحكم عليهم بالطرد وتعويض قدره 20 مليون سنتيم، بعد أن قدم دفاع الجمعية عقدا للملكية، بالرغم من أن مديرية أملاك الدولة لوهران في إرسالية تحمل رقم 3502 مؤرخة في 10/09/1997 تفيد بأن العقار محل الدعوى آل إلى أملاك الدولة الجزائرية بفعل الشغور، طبقا للأمر66/102 الصادر بتاريخ 06 ماي 1966 المتضمن أيلولة الأملاك الشاغرة إلى الدولة. وتوفي إثر ذلك "الأب لعمارة" مخلفا أرملة وابنة تكفل شقيقه "عبد الناصر" برعايتهما مواصلا لوحده معركته القضائية ضد الجمعية، حيث قام بالاعتراض على الحكم الصادر ورفضت دعوى الجمعية لعدم التأسيس، غير أن الجمعية المسيحية واصلت مسعاها لتشريد العائلة الجزائرية، حيث في 14 جانفي 2013 أيدت محكمة وهران الحكم السابق والقاضي بإخلاء المبنى لصالح الجمعية المذكورة. ومنذ ذلك الحين انقلبت حياة العائلة رأسا على عقب، ونبهنا "عبد الناصر" إلى رمزية التواريخ التي اختارتها الجمعية لتبليغه بإخلاء البناية، حيث قال إنه تم تبليغه أول مرة في أول يوم من شهر رمضان، وثاني تبليغ كان في ثالث أيام عيد الأضحى، وثالث تبليغ كان يوم تأهل الفريق الوطني لكرة القدم إلى المونديال، مؤكدا أن اختيار هذه التواريخ لم يكن عشوائيا بل يدل على حقد دفين لدى الجمعية المزعومة. ويطرح الملف أكثر من تساؤل، حيث إن كل الأدلة والإثباتات تصب في صالح عائلة "حداد"، فمديرية أملاك الدولة صرحت في إرسالية خاصة بأن العقار آل إلى أملاك الدولة الجزائرية بفعل الشغور، إضافة إلى أن مستخرج البطاقة السلبية الصادرة عن المحافظة العقارية يفيد بأن العقار محل الدعوى دون مالك، كما أن شهادة أخرى صادرة عن أسقفية الكنيسة الكاثوليكية بوهران تفيد بأن العقار محل دعوى الطرد لم يسجل ضمن القوام العقاري للكنيسة ولم يكن يوما مقرا لها، إضافة إلى أن الجمعية المزعومة غادرت التراب الوطني غداة الاستقلال ولم تمارس نشاطها منذ تلك الفترة، لتصبح جمعية أجنبية لا يمكنها مقاضاة العائلة إلا بعد أن تحصل على اعتماد آخر. عبد الناصر حداد: الجمعية حاولت ابتزازي وعرضت عليّ سكنا في فرنسا قال عبد الناصر إنه تعرض للابتزاز من طرف الجمعية التي حاولت إغراءه بشتى العروض حتى يستسلم ويكف عن المطالبة باستعادة البناية، حيث عرضت عليه أموالا مقابل التخلي عن البناية، ثم عرضوا عليه السفر والإقامة في فرنسا وهو ما قال إنه رفضه، ولم يستبعد الضحية أن تكون ثمة جهات خفية متواطئة مع الجمعية، حيث استغرب أن يتم طرده من البناية رغم أن كل الإثباتات والوثائق تصب في مصلحته، حيث أظهر لنا بطاقة تعداد تحمل اسمه والتي منحت له إثر التعداد الرابع للسكان عام 1998 وتحمل رقم 3764011، إضافة إلى وثيقة أخرى صادرة عن مديرية التنظيم والشؤون العام لوهران مؤرخة في 02/12/2006 تنص على أن الجمعية غير مسجلة في قائمة الجمعيات لوهران مما يدل على أنها جمعية أجنبية، قال إنها تسعى للعودة إلى الجزائر لبعث نشاطها التبشيري، مضيفا أن تحقيقات وتحريات قام بها هو شخصيا أثبتت أن الجمعية ذات مرجعية ماسونية، مستدلا بأسماء شخصياتها مثل رئيسها الحالي "آلان بورشال" ورئيسها السابق "لوسيان فيفييه"، وقال إنها تسعى لبعث نشاطها في الجزائر. وأضاف أن كل المؤشرات تدل على أن الأمر دبر بليل، وأن المحضرة القضائية في محضر إثبات الحالة زيفت أقواله ونسبت إليه تصريحات قال إنه لم يدل بها بل إنه لم يلتق أبدا تلك المحضرة القضائية التي أوردت في محضر إثبات الحالة أن المعني صرح بأنه لا يملك أي وثائق تثبت ملكيته للمبنى. 380 ساكنا يهددون بالدخول في إضراب عن الطعام تضامانا مع ضحايا الشركة الفرنسية لا تختلف قصة سكان العمارة رقم 11 بنهج الصومام وسط مدينة وهران كثيرا عن قصة عائلة "حداد"، حيث شرعت شركة فرنسية تسمى "الشركة العقارية والمالية لفرنسا وشمال إفريقيا (سيفان) والتي شرعت في طرد عشرات العائلات من العمارة رقم 11 بنهج الصومام وسط مدينة وهران، بعد أن تمكنت من افتكاك حكم قضائي لطرد تلك العائلات وإخلاء البناية، وهو ما دفع سكان العمارة والبالغ عددهم حوالي 380 شخصا للدخول في حركة احتجاجية متواصلة إلى أن قرروا في الأيام الأخيرة إعلان إضراب جماعي عن الطعام مطالبين السلطات العليا بالتدخل، خاصة بعد السابقة الخطيرة وسعي الشركة الفرنسية لثني السكان عن الدفاع عن حقوقهم برفعها دعوى قضائية ضد ولاية وهران لإلغاء قرار اعتماد جمعية لجنة الحي التي انضوى السكان تحتها للدفاع عن أنفسهم، إلا أن القسم المدني الذي رفعت أمامه الدعوى القضائية رفضها لعدم الاختصاص، ويرتقب أن تقوم الشركة الفرنسية برفع الدعوى مرة أخرى أمام القسم الإداري. وبدأت معاناة هؤلاء عندما فاجأتهم الشركة المذكورة بتاريخ تاريخ 8 جوان 2011، بوثيقة تدعي من خلالها ملكيتها للمبنى، ليدخل سكان العمارة منذ ذلك الحين في معركة قضائية مع الشركة، حيث تم تأييد ملكية الشركة للمبنى، وبدأت بعد ذلك عمليات الطرد الجماعي من المبنى بأحكام قضائية، مما تسبب في موجة سخط وسط السكان وتدهورت الحالة الصحية لبعضهم تحت وقع صدمة الطلب بإخلاء المبنى. وأفاد المحتجون بأن 4 أبناء شهداء أصيبوا باختلال عقلي جراء هذه الصدمة، فيما تسببت الأحكام القضائية التي وصفوها بالتعسفية في وفاة 4 أبناء شهداء آخرين متأثرين بقرارات طردهم من مساكنهم التي عاشوا فيها منذ عقود. ولم يستبعد السكان أن تكون ثمة جهات قد تواطأت مع هذه الشركة المسماة "سيفان"، ليقرروا شن حركة احتجاجية بعد أن بدأت عمليات الطرد الجماعي للعائلات الواحدة تلو الأخرى. ليقوموا بخطوة تأسيس جمعية للدفاع عن أنفسهم بتاريخ 13 سبتمبر 2013 سموها "لجنة سكان عمارة رقم 11 بنهج الصومام"، ووكلوا محاميا للدفاع عن قضيتهم، وتبين من خلال التحقيقات التي قام بها المحامي "الأستاذ بن موسى العربي" وأطراف أخرى تضامنت مع السكان في هذا الصراع أن عقد الملكية الذي أظهرته هذه الشركة والذي يحمل الرقم 32/1198 مجلد رقم 570 وثيقة رقم 1 تبين أنه "غير قانوني". وجاء في عريضة المحامي التي تحوز "البلاد" نسخة منها أن "العقد الذي تحوزه الشركة انبثق عن تحول شركة "سيفان" من شركة فرنسية إلى شركة جزائرية دون اتباع الإجراءات القانونية والتشريع الجزائري". كما أن مديرية أملاك الدولة لوهران أيدت السكان عندما أشارت في مراسلة بحوزتنا إلى أن ملكية المبنى تعود إلى الأملاك الوطنية، بسبب غموض الطبيعة القانونية للمبنى، وذلك لأن الأرشيف التابع لمديرية الحفظ العقاري قد تعرض للتلف من طرف المنظمة العسكرية السرية (أو آ آس) عام 1962، كما نصت مديرية أملاك الدولة من خلال تقريرها المفصل على الطبيعة القانونية لهذا المبنى في وثيقة تحمل رقم 4 من المراسلة رقم 3289 المؤرخة في جويلية 2007 ردا على طلب مؤرخ في ال 14 من الشهر ذاته حول الطبيعة القانونية للمبنى من طرف محامي السكان، نصت على ضرورة دمج هذا العقار ضمن أملاك الدولة. وبالرغم من أن قانون المالية التكميلي كان واضحا في هذا الخصوص، فالأملاك التي تخلى عنها أصحابها غداة الاستقلال تؤول إلى الدولة الجزائرية، إضافة إلى أن مديرية أملاك الدولة نصت في مراسلة خاصة على أن ملكية البناية تعود للأملاك الوطنية، إلا أن الشركة الأجنبية تمكنت من طرد عدة عائلات وهو المصير نفسه الذي يتهدد عشرات العائلات الأخرى التي تبيت تحت هاجس طرق المحضر القضائي والقوة العمومية لأبوابها.