* سكنات ومرافق عمومية لا تؤخذ فيها اعتبارات العجز البدني للمعاقين حركيا "اضطر أبي لتوقيفي عن الدراسة رغم أنني كنت تلميذا نجيبا ومجتهدا لأنني كنت أسبب له العذاب في حملي يوميا لعدة مرات، سواءا لإخراجي من العمارة وأنا أقطن بالطابق الخامس للتوجه إلى المدرسة أو بعض المرافق العمومية الأخرى، فتصوروا أنني على هذه الوضعية لمدة 30 سنة ".. عبارات قالها محمد شاب في الأربعينيات من العمر وعلامات الحسرة واليأس بادية على وجهه، جعلتنا نفكر في الكشف عن معاناة هذه الفئة التي تبقى رهينة عجزها البدني. 2 مليون معاق.. 44 بالمائة منهم إعاقتهم حركية تشير الإحصائيات المقدمة من طرف وزارة التضامن الوطني إلى أن عدد الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في الجزائر، يزيد عن 2 مليون شخص ويمثل المصابون بإعاقة حركية النسبة الأكبر منهم والتي تعادل 44 بالمائة، وهي الفئة التي كانت الوزارة الوصية قد صرحت في الكثير من البيانات والتقارير والطلات الإعلامية وعلى لسان مسؤوليها، إن الدولة تضمن لها الحماية القانونية في جميع المجالات، لا سيما الاجتماعية منها، خاصة وأنهم يجدون صعوبات كثيرة في القيام بمختلف الأنشطة والتكفل بأنفسهم بحكم عجزهم البدني كل حسب نسبة إعاقته. بالعديد من البلديات في ولاية تيبازة تجدهم متجمعين أمام مقر وفروع جمعياتهم التي يلجأون إليها لتقاسم همومهم ونسيانها ولو لفترة ويشدون على بعضهم البعض نساء ورجالا وأطفال وشيوخا، إنها مقرات جمعيات المعاقين بالولاية قصدناها لكي نكتشف عالم الإعاقة وما تخبئه تلك الأجساد التي تنقصها أعضاء وأطراف وحتى وإن اكتملت في بعضها فتجده مشلولا عن القيام بأي حركة أو نشاط معين. وجدنا عدد من المعاقين حركيا جالسين بإحدى قاعات الجمعية، فابتسم أحدهم وقال إن الرئيس غائب، جلسنا بالقرب منه ودخلنا في دردشة معه، كشفنا له أننا نريد أن نقوم بروبورتاج عن وضعيتهم الاجتماعية تنهد وقال "يا حسرتاه ماذا أحكي وماذا أقول، مهما حكيت لكم لن أشفي غليلي"، رفضت الحديث والخوض في تفاصيل حياته غير أنها عرفتنا بمحمد، شاب في عقده الرابع من العمر بدأ يسرد قصته وكأنه وجد فينا متنفسا كان ينتظره منذ زمن، والواضح أن صوته لم يجد سابقا آذانا صاغية. محمد هو مثال عن الكثير من الحالات المتواجدة في مختلف ربوع الوطن يعانون في صمت، فتح لنا قلبه وبدأ يروي قصته، يقول محمد "كان حلمي أن أدرس وأنجح وأعيش كإطار في المجتمع، غير أنني أصبت بشلل نصفي بعد أن سقطت من السلالم وكان عمري حينها 5 سنوات، وبعد التحاقي بالمدرسة ودراستي لسنوات اضطر أبي لتوقيفي عن الدراسة، رغم أنني كنت تلميذا نجيبا ومجتهدا لأنني كنت أسبب له العذاب في حملي يوميا لعدة مرات، سواء لإخراجي من العمارة وأنا اقطن بالطابق الخامس للتوجه إلى المدرسة أو بعض المرافق العمومية الأخرى ".. "معاناتي لم تتوقف ولا يزال أهلي يتجرعون المعاناة أثناء حملي لقضاء حوائجي البيولوجية، فتصوروا أنني على هذه الوضعية لمدة 30 سنة، ففي الكثير من الأحيان كنت أسبب الإحراج لأهلي وأحس أنني عالة عليهم، خاصة عندما أتلقى استدعاء من مصلحة الشؤون الاجتماعية أو مديرية النشاط الاجتماعي التي في غالب الأحيان أجد صعوبة كبيرة في الدخول إليهما لقضاء مشاغلي الإدارية. كما أنني خلال السنوات العشر الفارطة زاد وزني كثيرا بسبب قلة الحركة، لكن دائما كنت أتساءل لماذا لم يتم وضع مصاعد آلية في العمارة التي أقطن بها. كما أن أبي فكر في الكثير من المرات في تغيير المسكن، لكن لم يجد حلا لحد الآن". كريم شاب آخر وجدناه واقفا في إحدى الزوايا، كان يسمع لحديثنا مع محمد ولكن قرأنا في نظراته أنه يريد البوح بأشياء، تقدم منا وقال "تعرضت لحادث مرور وأنا في سن الخامسة، ورغم ذلك اجتهدت في دراستي وكنت من أحسن التلاميذ إلى أن بلغت مستوى جامعي وتحصلت على شهادة جامعية ومكنتني من ولوج عالم الشغل، رفعت التحدي ولم أشعر بالإعاقة إطلاقا رغم أنني في بعض الفترات كنت أحس بذلك النقص، فلا أستطيع ممارسة كرة القدم مثل أصدقائي ولا أستطيع أن أركض مثلهم ولا أستطيع حمل الأثقال ولا استطيع سياقة سيارة عادية، لكن المشكل الأكبر الذي واجهته في حياتي هو وجود سكن عائلتي في الطابق الرابع، كنت اعتمد على أخي الذي ينتظرني كل مساء أثناء عودتي من العمل للصعود في السلم، ولكم أن تتصوروا معاناتي مع هذه الوضعية لأكثر من 10 سنوات، فبالاضافة إلى كل هذا كنت أجد صعوبة كبيرة في قضاء حوائجي البيولوجية، قبل أن يضطر أبي إلى شراء منزل آخر في الطابق السفلي من أجل أن يريحني من متاعبي اليومية". .. وأخيرا وجدوا متنفسهم للبوح بمعاناتهم وبينما كاد كريم ينهي حديثه حتى أطل علينا البشير، فتنهد تنهيدة عميقة فالتفتنا إليه ونظر إلينا نظرات حسرة، وقبل أن نخوض في الحديث معه فاجأنا بعبارة "يا ليت لو كان حظي مثل محمد"، فاستفسرناه عن الأمر ليبدأ في سرد قصة معاناته اليومية، حيث كشف أنه عندما كان في عمره 4 أشهر وعند عملية تلقيح في أحد المستشفيات تمت العملية بطريقة خاطئة قبل أن يصاب بالحمى التي تسببت له في شلل ولم يتمكن والده من علاجه بسبب أحواله الاجتماعية الصعبة، ومع ذلك رفع والده التحدي من أجله وأدخله المدرسة في كرسي متحرك، إلا أنه سرعان ما فرضت عليه الظروف التوقف في سنوات الابتدائي، نتيجة المتاعب الكبيرة التي كان يتلقاها بسبب انعدام مدخل خاص بالمعاقين في المؤسسة التربوية التي تحفظ عن ذكر اسمها وانعدام المسالك الخاصة بهذه الفئة في الطرقات، وكاد ذلك أن يودي بحياته في أكثر من مرة نتيجة الخطر الذي تشكله المركبات، إضافة إلى المتاعب الأخرى التي عانى منها أفراد عائلته في حمله أثناء عودته من الدراسة وهو ما دفع بالأب إلى إبقائه في البيت بسبب ارتباطاته المهنية البعيدة. يضيف البشير إن وضعيته استمرت على حالها إلى يومنا هذا، وأنا أتيت اليوم بدعوة من أحد الأصدقاء إلى مقر الجمعية التي سمعت بها وأريد أن أنظم إليها سعيا إلى الحصول على مساعدة، لكن عانيت اليوم كثيرا أثناء نزولي من الطابق الثالث إلى الشارع الرئيسي، خاصة وأن وزني ثقيل ولم أستطع التحكم فيه بسبب عدم الحركة والنشاط وأصاب بفقدان التوازن والسقوط في الكثير من المرات. علي هو الآخر اغتنم فرصة وجودنا ليقاطع الجميع وأصر على أن يحكي لنا قصته ليكشف عن معاناته، حيث يقول "إنه أودع ملفا للاستفادة من دراجة نارية خاصة بفئة المعاقين من أجل تسهيل تنقلاته إلى خارج البيت، غير أنه لم يتمكن من ذلك بسبب إجراءات معقدة، حيث كان يقصد يوميا مركز بن عكنون المتخصص في توزيع الأعضاء الاصطناعية والدراجات النارية، غير أنه أكد أن مازاد من معاناته هو صعوبة دخوله إلى العديد من المرافق العمومية لقضاء مشاغله وتسوية أموره الإدارية، حيث يتعب كثيرا بسبب تنقله في الحافلة أو مشيا بالاعتماد على العكازات، لتقابله سلالم على مستوى الإدارات وهو ما اعتبره تهميشا وتجاهلا لهذه الفئة". ومن خلال حديثنا مع محمد وكريم والبشير وعلي، اكتشفنا وجود آلاف المعاقين حركيا على المستوى الوطني يقطنون في طوابق علوية في عمارات وهنا يأتي التساؤل هل تأخذ السلطات معايير خاصة في إنجاز بناءات تتوفر على مصاعد لهذه الفئة أو مراعاة عجزهم البدني في منحهم سكنات؟ جمعيات المعاقين تؤكد أن القانون واضح والتطبيق غير موجود يؤكد رؤساء جمعيات المعاقين أن القانون الحالي واضح في هذا الجانب، حيث ينص على أن كل منشأة يتم بناؤها تكون مزودة بمداخل ومسالك للمعاقين سواء في العمارات للسكن أو في الإدارات أو في الشوارع أو الطرقات وباقي المرافق، ويؤكد القانون إنه لا يتم استلام المشروع رسميا إلا إذا توفرت فيه هذه الشروط. ورغم أنه حقق قفزة نوعية من خلال وجود العديد من المصالح مزودة بهذه التجهيزات، إلا أن الخلل مايزال قائما في مناطق أخرى، فالكثير من المعاقين الذين يقصدون مراكز البريد ومقرات البلدية ومقرات الضمان الاجتماعي والعيادات لا يجدون ممرات خاصة بهم، مما يبقيهم خارج المقر أو يستعينون بأفراد آخرين وهو الأمر الذي يزيدهم إحساسا بالنقص وينطبق الأمر أيضا على حافلات النقل والوسائل الأخرى. من جهته، كشف محمود خلو، رئيس المنتدى الجزائري لذوي الإعاقة، أنه يشكك في الأرقام التي تكشف عنها الوزارة الوصية بشأن عدد المعاقين بالجزائر ويعتبر أن الرقم أكبر من ذلك بكثير وقد يصل إلى أكثر من أربع ملايين، مضيفا أن الوزارة الأولى أصدرت بتاريخ 21 ديسمبر 2013 تعليمة تحمل رقم 368 موجهة إلى وزراء كل القطاعات حسب درجة تدخلها لضرورة وضع ترتيبات تشريعية تتمثل أساسا في وقاية المعوق من خلال عدة تدابير ومنها التشخيص المبكر للإعاقة والمرافقة الصحية والتعليم والتكوين، وكذا نظام تجسيد الإدماج والحماية قصد تحسين الرفاهية الاجتماعية والمهنية للأشخاص المعوقين، وأكد خلو أنه يتعين على الوزير الأول تجسيد المادة 36 من قانون حماية وترقية المعوقين الصادر بتاريخ 08 ماي 2002 والذي يؤكد على أن تقدم الحكومة عرضا أمام المجلس الشعبي الوطني حول برامج حماية المعوقين وترقيتهم، لا سيما برامج الوقاية من الإعاقة والنتائج المحققة في إطار عرض بيان السياسة العامة، ولا يكتفي بذلك بل يطالب أيضا بضرورة إعادة النظر في هذا القانون الذي لم يعد مستجيبا للخصوصيات والظروف الحالية للمعاقين بالجزائر والتغيرات الاقتصادية. ويضيف محمود خلو إنه بات من الضروري على وزارة السكن والعمران والمدينة أن تلعب دورها في تهيئة المحيط لذوي الإعاقة قصد إدماجها وتسهيل وصولها إلى كل المرافق العمومية والخاصة وإزالة كل الحواجز والعراقيل أمامها وتسهيل تنقلها لإشراكها في التنمية الاقتصادية. كما حث وزارة النقل على تهيئة جميع وسائل النقل بتقنيات عالمية، لتمكين ذوي الإعاقة من التنقل في كل الأماكن والاتجاهات دون الحاجة للغير تطبيقا لقانون تكييف المحيط الساري به العمل والذي يلزم مكاتب الدراسات تكييف مختلف المرافق والسكنات وغيرها للمعوقين قصد تسهيل ولوجها وإلزام المقاولات أيضا باحترام معايير الانجاز والتي تكلف الخزينة العمومية مبالغ إضافية لا تقل عن 15 إلى 20 بالمائة من الميزانية المخصصة لكل مشروع. الدولة تُلزم مكاتب الدراسات والمقاولين بتوفير مداخل خاصة بالمعاقين وورغم أن وزير السكن كان قد أكد في العديد من المناسبات أنه يوجه تعليمات صارمة لولاة والمدراء التنفيذيين تحث على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار فئة المعاقين في إنجاز المرافق العمومية والسكنات، وتطبيق المادة 9 من الاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية للأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة والتي صادقت عليها الجزائر كباقي الاتفاقيات المتعلقة بهذه الشريحة، غير أن المسؤولية تعود على الولاة والجهة صاحبة المشروع المنجز سواء ديوان الترقية والتسيير العقاري أو مديرية التجهزات العمومية أو الوكالة العقارية أو مديرية التعمير بصفتها تقوم بوضع المخططات العمرانية أو ما يسمى بمخطط شغل الأراضي ومديريات أخرى وهو الأمر الذي يستوجب منها المتابعة والرقابة في إنجاز هذه المرافق. من جهته، أوضح مصدر مسؤول من وزارة التضامن أن مصالحه تعمل على إعادة النظر في القوانين التي تخص هذه الفئة ومنح أولويات أكبر في الاستفادة من السكن، إضافة إلى رفع المنحة والتكفل بالعلاج والرعاية الصحية.