كانت قد وصلتني، وأنا في الجزائر، بعض الأصداء عن مشروع "ثقافة بلا حدود"ً في الشارقة، ولفتت انتباهي خطوات حضارية مبتكرة جاء هذا المشروع لتكريسها، متمنياً أن تخطو دولنا العربية هذه الخطوات، في ظل حاجتها الملحة إليها: أن يصبح الكتاب عضواً في الأسرة. كنتُ أطوف على أجنحة "مهرجان الشارقة القرائي للطفل"، وإذا بي أجدني في مواجهة جناح أنيق يسوده دبيب لطيف لنخبة من الشابات والشباب، والابتسامات تعلو وجوه الجميع. تذكرت عبارة العسكري البريطاني الذي قال لجنوده حين وصلوا إلى المنطقة: "ابتسم.. أنت في الشارقة". كانت الشارقة يومها صحراءَ موغلة في الجفاف، وها هي اليوم تغرق في القراءة. دخلت إلى الجناح وسألت عن الأستاذ راشد الكوس، فإذا به يطلع من بين الشباب مبتسماً. شاب درسة إدارة الأعمال، واشتغل مقدمَ برامجَ في إذاعة الشارقة، لكنه ترك ذلك كله وانخرط في مشروع "ثقافة بلا حدود" الذي بادر به حاكم الإمارة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عام 2008، وتشرف على تجسيده كريمته بدور بنت سلطان. ويأتي المشروع حسب محدثنا راشد الكوس امتداداً طبيعياً لاحتفاء المدينة بالكتاب وأهله، فقد تأسست "المكتبة القاسمية" عام 1925 في قلعة الشارقة، وكان اختيار هذا المكان من الناحية الرمزية، يشير إلى أن الأسرة الحاكمة اختارت منذ زمن بعيدٍ الفعلَ الثقافيَّ سلاحاً لمواجهة أشكال الجهل والتخلف. جوهر المشروع أن تكون في كل بيتٍ مكتبة، صُمٍّمتْ بطريقة مبتكرة وعملية، بحيث تتوسط البيت في شكل طاولة قهوة، حتى تكون في متناول الجميع، وتضم عناوينَ مختلفة تغطي حاجة جميع الأعمار من أفراد الأسرة. ويقول الكوس الذي ينحدر من أسرة مثقفة، فوالده هو الشاعر محمد الكوس، إنهم قرروا انطلاقاً من استشاراتٍ علمية أن تكون البداية بخمسين عنواناً، وإنهم استطاعوا لحد اليوم أن ينجزوا 30 ألف مكتبة، وإنهم رأوا أن تكون الكتب كلها باللغة العربية، في ظل توجه الجيل الجديد إلى اللغة الإنجليزية، "إننا بهذا نحافظ على لغتنا القومية من جهة، ونعطي يداً للناشر العربي، ذلك أننا نقتني مباشرة من عنده". الكوس اعترف بأن المجال الوحيد الذي يجدون فيه صعوباتٍ هو كتاب اليافعين، والذي يتوجه إلى فئة عمرية حساسة، داعياً الكاتب والناشر العربيين إلى بذل مزيد من الإنتاج في هذا الباب. "إننا في هذا المشروع مستعدون لأن نقتني ما ينتجون، وشرطنا الوحيد هو توفير الجماليات". ومن فروع مشروع "ثقافة بلا حدود" المكتبة المتنقلة التي توفر الكتاب في المدارس والحدائق والساحات العامة والمستشفيات، بحيث يمكن للمريض أو أهله الذين يزورونه الاستعانة على الوقت بالقراءة، بالإضافة إلى "المكتبة الجوية" بالتعاون مع العربية للطيران، بحيث يتم توفير الكتاب مجاناً للمسافرين. راشد الكوس ختم بالقول إنهم سجلوا المشروع على مستوى "اليونسكو"، وإنهم مستعدون للتعاون مع الدول العربية الراغبة في خوض التجربة، داعياً إياها إلى المسارعة إلى ذلك بالنظر إلى الثمار الإيجابية المترتبة عنه. * مساهمة