كثرة الحديث عن العسكر.. وعن الإحالات والتغييرات و«الإقالات" والترقيات والتنزيلات.. إشارة إلى ما يسكن عقلننا الباطن من هواجس كثيفة.. تخص الدولة المدنية.. أي الدولة التي تُحكم من خارج الثكنة.. إن كانت قائمة فعلا في عالمنا العربي.. أم إنها مجرد شعار عريض.. يخفي بداخله الدولة الأخرى.. النقيضة.. التي يسميها البعض الدولة العسكرية. وللأسف.. يبدو التاريخ العربي مشحونا بهذا التناقض.. بين ما يُكتب في الدستور.. وما يُفعل على الأرض.. بين الدولة التي لا تتداخل فيها الصلاحيات.. وتلك التي يقع فيها السطوعلى الوظائف.. الدولة المختطفة التي تُنقل من موقعها الطبيعي إلى مكان آخر.. لتظل رهينة القوة والعجرفة.. والدولة المستقرة في موقعها الصحيح.. التي ينتظمها القانون.. والتي لا يجرؤ أحد على زحزحتها من موقعها. بعض الدول لا تملك جيوشا.. وتستغنى عن الآلة العسكرية ببعض الحرس والشرطة.. وهي آمنة تماما.. ومحايدة في الحروب والنزاعات.. وبعضها الآخر يملك جيوشا.. تمتنع عن ممارسة السياسة.. ولا تجرؤ عليها حتى ولو أرادت.. وهي وفيه لوظيفتها الدستورية. والحاصل أن وزراء الدفاع في هذه الدول مدنيون ومنهم وزيرات لم يلتحقوا يوما بكلية أومدرسة عسكرية.. ولم يتخرجوا بالرتب ولا يفتخرون بأثقال النياشين.. لكنهم يحملون فكرا إستراتيجيا وثقافة أمنية جديرة بالتنويه.. وهم همزة الوصل.. بين ما هو مدني وما هو عسكري.. والأمر البارز هنا.. أن الظاهرة العسكرية في هذه الدول ضمرت تماما. في المقابل.. نجد جيشا عربيا يحكم دولة مدنية منذ خمس وستين سنة.. ويستولي على أربعين في المائة من اقتصادها.. ويتخصص في إنتاج العجائن يا للعجب .. ولأنه لم يتعلم مطلقا كيف يمارس وظيفته الدستورية.. فقد انقلب على أول رئيس مدني منتخب فسجنه.. وهو يحاكمه الآن بتهمة التخابر مع حماس وقطر والفرار من سجن النطرون!! الديمقراطية عندنا وعند غيرنا .. تعبير جوهري عن الإرادة الحرة للناس.. ولا وجود لدولة مدنية على الإطلاق إلا بما يقرره الصندوق الانتخابي بنزاهة تامة.. فالعسكري رهن القرار السياسي الذي تنتجه المؤسسات المدنية.. وليس العكس. فهل نأمل في حضور الدولة التي نسمع عنها.. ولا نشاهد منها إلا ظلها.. أعني الدولة المدنية كاملة الأركان والمواصفات؟ أم تظل طيفا جميلا يسكن أحلامنا لا أكثر؟