يبرّر الشاعر السوري شاهر خضرة (1954)، إصدار أعماله الكاملة وهو على قيد الحياة، برغبته في أن يرى الموت الذي بات مهيمناً على اليوميات السورية يسبقه إلى الفناء، ذلك أن الكتاب/ الكتابة عنده، كفَن جاهز في وجه الموت/ الخراب. تتوفر الأعمال الكاملة لخضرة، والتي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (سبتمبر 2014)، على جرعة زائدة من الاحتفاء بالحياة، وبمفرداتها التي تصارع هي الأخرى من أجل ألا تطمس، أو توظّف في غير إنتاج قيم الجمال والنبل الإنساني. هذا الخيار المنسجم مع وظيفة الشعر (كلمة "وظيفة" هنا قابلة للنقاش)، فرض قاموساً خاصّاً لدى شاهر خضرة، منذ مجموعته الأولى، حيث النزوع نحو المفردة السلسة، والجملة البسيطة التي تحبو نحو الطفولة، والأسلوب المفتوح على الشغف، أين تطرد روحُ السؤال روحَ اليقين. لا نتعثر بنصوص كثيرة تنخرط بشكل مباشر في القضايا السياسية/ الاجتماعية، من باب النضال بالشعر، ذلك أن الكتابة باللغة المحكية عند خضرة ونخبة من الزجالين الشوام، في ظل نظام سياسي يتخذ من القومية العربية، و"وجوب" الحفاظ على صفاء لغتها الفصحى، قناعَ شرعية وجوده واستمراره، يعدّ نضالاً في حدّ ذاته. تنزاح هذه التجربة الشعرية بمفهوم الالتزام، من التغني بملامح الهوية الوطنية والقومية للإنسان العربي، خارج الجرعة التي تسمح بها روح الشعر، إلى اعتبار الجمال/ الجماليات مبرر الكتابة أصلاً، وهي بهذا تملك قدرة واضحة على أن تسافر إلى اللغات الحية من غير أية عقدة. من هنا ينخرط شاهر خضرة، إلى جانب زجالين في المشرق والمغرب العربيين، في مسعى نقل القصيدة المحكية من شفويتها/ غنائيتها، إلى مقام الكتابة/ الأثر، وهو مسعى بدأ يفرض نفسه في الفترة الأخيرة، من حيث عدد الأقلام، مع يتم نقدي وإعلامي يعكس حساسية المنظومة الثقافية العربية الرسمية، من التجارب/ الأصوات الخارجة عن المساطر. كان عام 1977 عتبة المنفى الأولى في حياة صاحب ديوان "أغانٍ بابلية"، وسوف نجد هذا المنفى في أوطان عربية وغربية كثيرة إلى غاية اليوم، آخرَها كان المغرب وألمانيا، يطارد نصه من خلال مفرداته التي تنزع نحو الحزن والحنين. هناك حزن شفيف يغلف هذا النص، رغم الكبرياء والنزوع نحو فرح الشاعر باللحظة، لكنه يبقى دوماً فرحاً معلقاً. هذا المقام دفع الشاعر إلى أن يخلق وطنه من جديد خارج حدوده، فيه كثير من مناخات سوريا، وفيه الكثير من قاموس الطفل الجانح بخياله إلى ما هو أبعد من قرميد البيت، إنه مقام يبرمج لحظة الشاعر خارج وطنه الأم على الأبعاد الإنسانية التي تخفف من غربته المزمنة. فمن مزايا نص شاهر خضرة أنه لا يتبرّم من المكان "الأجنبي"، ويرى فيه اللعنة والعقوبة التي تستحلب الشكوى. وقفت القطّه بظهر هالصندوق ونقَّط حليب بزازها من فوق رضعوا القطط من أُمّهن بشوق وخطَّتْ القطّه بصوتها الرضيان نامتْ وكانت راضيه عنّي لكن صدر أمِّي بقي نشفان نص يثير في قارئه روح التعاطف مع شاعره، لكنه لا يتورط في الشكوى التي تنم عن رومانسية فائضة على حدود النص الذي هو انفتاح في الأصل. وربما هذا ما يبرر التنويع الإبداعي عند خضرة، فهو يكتب بالفصحى والمحكية، ويقترف أدب الرحلة والنقد وكثيراً من السرود.