لقد شوهت الأحزاب البعثية والقومية مفهوم الأمة العربية ، بعد أن تحكمت في الشعوب بالدكتاتورية والقهر والشعارات الفارغة ، الآن أصبح الحديث عن الوطن العربي والمصير المشترك يثير السخرية وحملات التهكم ، بعد أن انتشر اليأس والإحباط في صفوف الشباب العربي "أقصد العربية كثقافة وحضارة وليس كقومية متعصبة "، فالأمة العربية يجب أن تكون منفتحة على الأمازيغ والكرد والفرس ،ومختلف الاثنيات التي أثرت الثقافة العربية بقادتها وعلمائها في عصورها الذهبية . هذا اليأس والإحباط المزمن وهته المقالات والأحاديث التي نسمعها كل يوم عن التشتت العربي والتخلف والتراجع ، لها مبررات صحيحة بفعل الهزائم أمام إسرائيل ، وتحول الربيع العربي إلى شتاء مظلم، وانتشار الفساد والتطرف والحروب الطائفية ،وغير ذلك من الإخفاقات في بناء دولة القانون والمواطنة . لكن دعونا نعود قليلا إلى الوراء ، ماذا كان وضعنا كعرب قبل قرن واحد ، كنا لا شيء مجرد قبائل هائمة على وجهها في الصحراء ، مجرد أهالي وعبيد عند الاستعمار الغربي ، قبل ذلك كنا نعيش وضعا منحطا تحت الحكم العثماني ، وهذا لقرون طويلة ، كيف نريد من أمة عاشت الضياع والانحطاط ، لأكثر من 6 قرون ، أن تستفيق وتسترجع عافيتها ودورها الحضاري في غضون 50 سنة، تعتبر لا شيء في حركة التاريخ . صحيح هناك الكثير من الإخفاقات ، صحيح أننا قتلنا بعضنا وكفرنا بعضنا وأقصينا بعضنا، لكن هل ينفع جلد الذات؟ أم من الأفضل التركيز على الانجازات التي حققناها كعرب ، وجعلها دافعا لمزيد من التقدم ، ماذا سنربح باليأس والتشاؤم؟، وماذا سنخسر بالتفاؤل والفخر بما حققناه ؟ مثلا نسبة الأمية التي كانت طاغية قبل 50 سنة في الوطن العربي الآن أصبحت شبه منعدمة ، رغم كل النقائص ، نجد عشرات الآلاف من الأطباء والمهندسين والمخترعين العرب في أرقى المدن العالمية ، لقد حققنا كعرب انجاز التحرير ، وقبل سنوات كسرنا حاجز الخوف من الدكتاتوريات ، واكتسبنا الحق في التعبير رغم انحراف الربيع العربي ، لكن الأكيد أن هذه الشعوب ستتعلم أن طريق التطرف مسدود ، كما تعلم الجزائريون جيدا من محنة التسعينات ، ستتعلم هذه الشعوب أن الحوار سيكون الحل في نهاية المطاف بعد أن يتعب الجميع من الفوضى والاقتتال ، ستتعلم هذه الشعوب أن الفساد وسوء التسيير أكبر مصائبها . الدول الأوربية لم تصل إلى درجة الرقي الحضاري والوعي الاجتماعي وتكريس دولة القانون والحق ، إلا بعد قرون من التجارب الدامية والحروب المدمرة ، لقد تعلموا من أخطائهم وخيباتهم ! لذلك كيف نطلب من العرب أن يصبحوا بين ليلة وضحاها في مستوى شعوب الدانمارك و سويسرا، وهم لم يخطئوا ولم يراكموا تجارب الموت والفشل والإقصاء والتطرف والتخلف والفقر . عندما نشاهد أن أكبر مطار في العالم الآن يقع في مدينة عربية رائعة كدبي أصبحت تنافس مدن نيويورك وباريس ولندن ، لابد أن نشعر بالفخر والتفاؤل ، وأن نثق في أنفسنا ونجعل مدينة دبي الراقية نموذجا لنا جميعا كعرب لنشيد مثلها ، عندما نرى المجتمع التونسي الحيوي وقد استطاع أن يصل إلى توافق في الدستور وفي طريقة الحكم دون إقصاء أو تهميش لأي طرف ، لابد أن نتخذه كمثال يحتذى به ، هناك العديد من الأمثلة المشرفة في وطننا العربي ستكون مصابيح في ظلمة التطرف والإقصاء والفساد والهزيمة . هذه الأمة التي حكمت العالم لقرون طويلة من بحر الصين إلى الأندلس ، بعد أن كانت قبائل بائسة قبل الإسلام ، وقدمت للإنسانية ابن رشد وابن سينا و الفارابي، وابن البيطار والإدريسي وابن خلدون ، لابد أن تجد يوما نفسها من جديد في مكان متقدم بين الأمم وهذا لن يكون إلا بالعلم والعمل والتسامح ، وليس بالشعارات الفارغة . أنس جمعة للتواصل مع الكاتب: [email protected]