قبل يوم واحد من فتح مكاتب التصويت للانتخابات الرئاسية، وبعد إسدال الستار على الحملة الانتخابية التي شهدت تنقل المترشحون الستة للاستحقاق الانتخابي لأغلب مناطق الوطن ومن بينها ولاية المسيلة التي تعتبر من بين الولايات القليلة التي استقبلت خمسة مترشحين فقط. قبل عشر سنوات ظهر اسم محمد السعيد كمكلف بالإعلام في الحملة الانتخابية للدكتور طالب الإبراهيمي. وعاد الشخص نفسه للظهور كذلك من تحت جلباب أستاذه طالب الإبراهيمي في رئاسيات 2004، وحدث أن ''لفظ'' مبنى المجلس الدستوري قبول ملف ترشحه والذي كان إيذانا باعتزال وزير الخارجية الأسبق العمل السياسي والطموح إلى كرسي الرئاسة. وكأنه من المحتوم أمن يعود اسم محمد السعيد كل خمس سنوات، ولكن هذه المرة باختلاف جوهري. فقد خرج من جلباب أستاذه وأعلن عن تأسيس حزبه ''الحرية والعدالة'' على أنقاض حركة الوفاء، ويزيد على ذلك المنافسة على كرسي الرئاسة. أسئلة كثيرة تولدت عن محمد السعيد، أو بالأحرى محند بلعيد اوسعيد، ولم تكن الساعتان اللتان قضاهما معنا خلال استضافته في المنتدى كافية للإجابة على ما يختلج في ذهن المترشح، ومعرفة الجوانب الشخصية في حياته الخاصة، وهو الذي بالإمكان أن يكون رئيسا للجزائريين غدا الجمعة عندما يعلن وزير الداخلية نور الدين زرهوني عن النتائج المتحصل عليها. ''الهملة'' الانتخابية تكشف عن مكنونات محمد السعيد .. وسائل النقل يحولها إلى مكتب عمل في اليوم الرابع من عمر الحملة الانتخابية كانت وجهتي إلى مقر المداومة الانتخابية للمرشح المستقل محمد السعيد بأحد الأحياء الراقية ببلدية حيدرة. والمطلوب مرافقة محمد السعيد طيلة ما تبقى من عمر الحملة الانتخابية والتي تحولت إلى ''هملة'' انتخابية قادتنا إلى مختلف ربوع الوطن. وهكذا كانت البداية لاكتشاف محمد السعيد، وأنا من على سيارة ''كليوكلاسيك'' وهو على متن ''نيسان رباعية الدفع''، كنت أرقبه من بعيد لأحاول معرفة ما يفعله طيلة المسافة من حيدرة إلى تيارت مكان تنشيطه التجمع الشعبي. وطوال المسافة كان محمد السعيد مشتغلا وبشكل لافت بقراءة الجرائد اليومية وباللغتين. وما إن يفرغ من تصفح الجرائد حتى يخرج من محفظته أوراقا وقلما ليعد خطابه أمام المواطنين. ولم يتغير حال محمد السعيد طوال آلاف الكيلومترات التي قطعها برا، ونفس الشيء جوا. ففي الرحلة الجوية بين ورفلة والعاصمة، ورغم التعب الذي ظهر على كافة الطاقم المرافق له بعد تأخر الطائرة في الوصول ثلاث ساعة كاملة استغلها محمد السعيد في ترتيب أوراقه وأفكاره للقاء سكان تيزي وزو. وما إن جلس على كرسي الطائرة حتى عاد إلى عمله المعتاد والمألوف: مطالعة الصحافة وتدوين الأفكار. وهو السلوك الذي لم يغيره في الرحلة الثانية التي كانت معه في رحلة خاصة بين الجزائروبشار، ومنها إلى تلمسان في رحلتين استغرقتا أكثر من خمس ساعات. وما إن تطأ قدماه المنصة الشرفية حتى يعود إلى عادته يطالع ويكتب الملاحظات. الافتتاح بالقرآن الكريم و''قسما'' بمقاطه الخمسة...أو التقديس ما شد انتباهي في محمد السعيد ''تقديسه'' الكبير للنشيد الوطني ''قسما'' بمقاطعه الخمسة، فهو لا يتسامح أبدا مع منظمي المهرجانات في حال إغفال المقاطع الكاملة لرائعة مفدي زكريا. قبل وصول الموكب إلى الولاية المزمع تنظيم التجمع الشعبي بها وحتى اللقاءات الجوارية وزياراته وتوقفه للحظات عند إحدى مداوماته الانتخابية، تبدأ الاتصالات بين محمد السعيد وذراعه الأيمن مدير الإدارة بالحملة الانتخابية السيد عزوز، فهذا الأخير يكلف بتبيلغ منظمي اللقاءات بضرورة الانتباه إلى مسألة النشيد الوطني قبل الوصول وتجريب القرص المضغوط وأجهزة الصوت درءا لأي طارئ. وهو ما حدث في اليوم قبل الأخير من الحملة الذي كان بولاية بسكرة، فقد ''أبت'' ''قسما'' أن تعزف على أسماع محمد السعيد الذي ظهرت عليه النرفزة لهذا ''الخطأ غير المسموح''، ومرت تلك الثواني كسنوات، والحضور ينظر بعضهم إلى بعض في سكينة غير مسبوقة، إلى أن اهتدى أحد أعضاء اللجنة الولائية إلى إنشاد ''قسما''، وطلب من الحضور الترديد معه، واكتفى بالمقطع الأول فقط. وفور انتهائه همس محمد السعيد في أذنه، والغالب أنه لامه على عدم مواصلة المقاطع الأربعة المتبقية. وترى محمد السعيد عند البدء في عزف النشيد الوطني خافضا رأسه مغمض العينين واضعا يديه وراء ظهره، وكأني به يسترجع ذكريات الاستعمار الأليم. الاهتمام الكبير لمحمد السعيد تجده كذلك في القرآن الكريم الذي تقرأ آيات منه. في كل ولاية يحيّي أهلها ويستحضر أبطالها محمد السعيد وقبل أن يعرض برنامجه الانتخابي ويغوص في جيوب السياسة، يحيّي سكان الولاية التي حل بها قائلا: ''لمن الغبطة والسرور أن أكون معكم اليوم''. ولا يفوت محمد السعيد الفرصة ليستحضر التاريخ المشرف لكل ولاية، والذي لن يقتصر على بطولاتها في الثورة التحريرية بل يبتدئه من الأزمنة الغابرة في تسلسل زمني محكم، وفي كل مرحلة من ذلك يشيد ببطل من أبطالها وبالخصوص من شهدائها. لا تفريط في زيارة معالم الأبطال ''أعتقد أن أي دولة جدية لا بد أن تبدأ باحترام رموزها التاريخية. ومن حق الأجيال أن تعرف أن في هذا البلد رجالا يجب إعادة الاعتبار لهم، ورجالا يجب احترام ما قدموه لهذا الشعب''. بهذه الكلمات فسر سبب زيارته لقبر الراحل هواري بومدين، كأول مكان ابتدأ منه الحملة الانتخابية. وهو السبب الذي يرجعه محمد السعيد إلى زيارة قبر العلامة عبد الحميد بن باديس، وشجرة الدردارة بمدينة غريس في ولاية معسكر التي بويع تحتها الأمير عبد القادر. وفي تلمسان وبعد فراغه من صلاة الظهر صعد إلى دار الحديث التي أسسها الشيخ البشير الإبراهيمي سنة 1973 وافتتحها العلامة ابن باديس. ولأن ولع محمد السعيد بالكتب كبير فقد تمت الزيارة بهدوء وتأنٍّ يتصفح الكتاب الفلاني ويراجع المخطوط الفلاني ويسأل عن السلسلة الفلانية. بغليزان أبى إلا أن يزور قبر الولي سيدي امحمد بن عودة باعتباره قاوم الاستعمار الفرنسي. ولأن محمد السعيد مازال يدين بالولاء لأستاذه طالب الإبراهيمي لم يفته أن يزوه في اليوم الأول من الحملة ببيته وكان يذكره في أغلب تجمعاته. مواقف أغضبت محمد السعيد وحكاية البلوط التي لم يحملها في المرات القليلة التي ظهر فيها محمد السعيد ''غاضبا''، وهو الذي لا تبرح الابتسامة محياه لكافة مرافقيه من إعلاميين ورجال حراسة، كان عدم بث تجمعه الشعبي بولاية الجلفة في نشرة الأخبار الرئيسية لعدم وصول الصور في وقتها حسب تبرير مؤسسة التلفزيون. في صبيحة اليوم التالي بدا استياؤه الكبير من التلفزيون وهو ما ترجمه اتصاله برئيس اللجنة السياسية لمراقبة الانتخابات محمد تقية، والاستياء زاد لعدم رد تقية على محمد السعيد، فما كان من محمد السعيد إلا مهاتفة المدير العام للتلفزيون لتبليغ الانشغال. وفي بشار، غضب محمد السعيد من عدم تمكن مدير حملته الانتخابية من استقطاب عدد كاف للقاعة، ورفض حتى المبررات المقدمة إليه، وخصوصا أن الرحلة إلى بشار قد تمت بعد كراء طائرة خاصة. كما أظهر محمد السعيد غضبا ورفضا للمبررات المقدمة له من أحد مديري مداوماته في ولاية سهبية، والسبب في ذلك خطأ أحد المنتسبين إلى تلك المداومة في معلومة قدمها أثناء حصة مرت على التلفزيون. وللصدفة أن محمد السعيد كان في تلك الأثناء يشاهد التلفزيون وهو على مائدة الإفطار بأحد فنادق ورفلة. وللملصقات العشوائية والبوستيرات الضخمة لأحد المترشحين نصيب وافر في نرفزة مرشح التغيير. وما صدر عن الأمين العام للأفلان عبد العزيز بلخادم، في حق المترشحين الخمسة، حين شبه المترشحين ببائعي البلوط وبوتفليقة ببائع التمر، جعل محمد السعيد لا يهدأ له بال وخصص الحيز الأكبر لتجمعه للرد على بلخادم وقصفه بالثقيل وتحداه. ولايات أحزنت محمد السعيد قبل وصولنا إلى غرداية التي نشط بها تجمعا شعبيا، في يوم جمعة توقف محمد السعيد عند مدينة بريان التي دخلناها قبيل صلاة الجمعة ولفت الانتباه التواجد المكثف والتعزيزات الأمنية لعناصر مكافحة الشغب للدرك والشرطة وكأن المدينة على فوهة انفجار، وهي التي عاشت أحداثا مؤسفة بين سكانها، ما رآه محمد السعيد ترجمه بضرورة أن يزور كل مسؤول في الدولة غرداية وأن يعمل على إعادة الحالة الطبيعية بين سكانها. وغير بعيد عن غرداية، وفي ورفلة التي قال عنها ''إنها تنام على الذهب وتغني الجزائريين، ولكن سكانها يعيشون الفقر''. بهذه العبارات حاول محمد السعيد أن يظهر تضامنه مع الغلابة الورفليين. وما أعابه محمد السعيد في الولاية التي عانت ويلات الإرهاب وسجلت أكبر عدد من المفقودين ولاية غليزان، ولم يجد في ذلك بتيزي وزو وبجاية اللتين لم تصل عجلة التنمية إليهما وعوقبتا جماعيا. محب للكسكسي والشربة... بعد الأكل لا تنسَ الشاي يحبذ محمد السعيد أكل الكسكسي وخاصة المعد بالمنازل، ولعلم مستضيفيه بذلك فقد اجتهدوا في تحضير الكسكسى في مسعدغليزان وعنابة وبشار وكل على طريقته. وبعد مدة اختفى الكسكسي من على الموائد، ولأن اشتهى أكله فقد كان يتساءل بين الفينة والأخرى عن عدم تحضيره. وللشربة على اختلاف تحضيرها بين مناطق الوطن نصيب من ''الإعجاب'' في نفس محمد السعيد. وبعد أن يفرغ من تناول الأكل يلتزم بأكواب من الشاي. قطع 70 كلم من أجل ألفي دينار وبرّاح انتظره ساعة من الزمن ''الهملة'' الانتخابية مع محمد السعيد لم تخل من الطرائف والذكريات الجميلة ولعل من أبرزها مع حدث خلال حلوله بمدينة مسعد، التي تبعد حوالي 70 كلم من الجلفة. ففي الوقت الذي كنا ننتظر فيه سير الموكب للعودة إلى الجلفة، اقترب منا أحد الكهول وسأل عن المسؤول الذي زار مدينتهم، فأجابه الزميل مهدي مهني من يومية ''لوكوريي''، الزائر هو الرئيس، وسأل الكهل من جديد: إذا سيقوم بتقديم الأموال، فأجبناه على سبيل المزاح: سيقدم مبلغ ألفي دينار لمن يحضر التجمع بالجلفة. ولأن الشخص أخذ كلامنا على محل الجد فقد قطع مسافة 70 كلم إلى مدينة الجلفة ودخل القاعة وسلم وردة بيضاء لمحمد السعيد وانتاظره إلى غاية خروجه طمعا في الألفي دينار، لكن مسؤولي الحماية منعوه من التقرب منه، وملامسة مبلغ مالي يجود به محمد السعيد. الحادثة أعادت نفسها بتفاصيل أخرى بسيدي بلعباس، حيث انتظرت مجموعة من ''البراحين'' محمد السعيد أكثر من ساعة من الزمن أملا في أوراق نمقدية يجود بها، وظلوا يغنون ويرقصون على أنغام ''القصبة والفلال''، وتكللت مجهوداتهم ب 2200دينار بعد ''تبريحة في خاطر الرايس''