البلاد - عبد الله نادور - عاشت الجزائر منذ تاريخ 22 فبراير 2019 سنة تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، سنة غيرت وستغير الكثير في جزائر الحاضر والمستقبل المنظور والبعيد. خرج فيها الجزائريون عن بكرة أبيهم يطالبون بالتغيير الجذري للنظام، رافضين استمرار حكم الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، كما طالبوا بإحالة الفاسدين على المحاكم واستقلالية القضاء، والعديد من القضايا، التي تجسد بعضها وينتظر البعض الآخر التجسيد ميدانيا.. الحراك الشعبي.. تصحيح لمسار الدولة يرى الدكتور إدريس عطية، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3، أن الحراك صحح مسارا طويلا لأزمة الدولة الوطنية في الجزائر، معتبرا هذا "أكبر مكسب" خاصة ونحن نتجه لإعلان جمهورية جديدة "ستتضح معالمها مع ظهور مسودة الدستور الجديد"، الذي سيشكل بدوره شهادة ميلاد الجزائر الجديدة. ويضيف الدكتور عطية أن البلاد قبل عام من هذا التاريخ "كانت تسير نحو المجهول"، لأن هناك جماعة "تغولت في الحكم" وأصبح لا يهمها سوى بقائها في السلطة بمنطق العصابة المختطفة للسلطة في البلاد ومختطفة للاقتصاد ولكل مقدرات البلاد ورقاب العباد. مؤكدا أنه بفضل الحراك السلمي الذي حرر الجميع وكسر كل الأوثان وحطم جميع القيود، تحرر الجميع من خلال مظاهرات شعبية سلمية شملت كل الوطن وأبهرت العالم في حضاريتها وسلميتها، وبذلك كان "أول إنجاز" لهذا الحراك والمتمثل في إسقاط العهدة الخامسة وإيقاف التمديد الذي طالبت به جماعة الرئيس الأسبق.
التمسك بالمخرج الدستوري ومن بين أهم إنجازات الحراك الشعبي، كما يقول الدكتور عطية، هو التمسك بالمخرج الدستوري "وجعل القانون خارطة الطريق الوحيدة" بعد أن تعالت إصوات داخل الوطن وخارجه بضرورة رمي الدستور والخروج عليه للتأسيس لمجلس انتقالي "قد يجهض الحراك ويدمر البلاد مرة ثانية". هذا المخرج رغم تحفظ العديد من الجزائريين عليه، إلا أنه أثبت نجاعته، بعد أسابيع قليلة من تجاوز هذا الموعد الرئاسي، من خلال التمسك بمؤسسات الدولة، واستمراريتها، من خلال الذهاب نحو المادة 102 من الدستور، وبعدها تطبيق المادتين 7 و8 من الدستور عبر آلية مستجدة.
السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات من بين أبرز ما حققه الحراك الشعبي، هو الذهاب نحو هيئة مستقلة مكلفة بمتابعة المسار الانتخابي من بدايته إلى نهايته، وهو الأمر الذي تم، حيث صادق المجلس الشعبي الوطني، رغم ضعف شرعيته، على القانون العضوي المتعلق بالسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات. ولأول في تاريخ الجزائر المستقلة، تمكنت هيئة ممثلة في سلطة الانتخابات، من تنظيم والإشراف ومراقبة العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها، وفي ظرف غير طبيعي، تمكن من إجراء الانتخابات الرئاسية ليوم 12 ديسمبر 2019. أفرزت انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون. هذه الانتخابات التي لم يطعن فيها أي مرشح ولم يقدم أي تحفظ عليها. ويرى الدكتور عطية، أن هذا تأتى بعد الدور البارز الذي لعبته هيئة الحوار والوساطة برئاسة كريم يونس، ومن خلال السلطة المستقلة للانتخابات التي يترأسها محمد شرفي، وهذه "قفزات نوعية" سواء في تنظيم الحوار وترجمة مخرجاته إلى أفعال وفي شكل سلطة مستقلة فعليا في تنظيم الانتخابات والإشراف عليها.
نموذج جديد من العلاقات المدنية العسكرية قال الدكتور إدريس عطية، إن من بين ما تحقق بفضل الحراك الشعبي هو "ولادة نموذج جديد من العلاقات المدنية العسكرية"، وذلك بعد أن لعبت المؤسسة العسكرية دور "المرافق القوي للحراك والضامن الكبر لسلامته" بفضل اليقظة الأمنية، ناهيك عن أن المؤسسة العسكرية كانت "قوة الاقتراح الوحيدة" في فترة جد صعبة في تاريخ الجزائر من خلال أزيد من 50 خطاب "سياسي عسكري" ألقاها الفريق الفقيد أحمد ڤايد صالح رحمه الله الاستمرار في ملاحقة الفساد وأدرج الدكتور عطية، العودة للأسرة الجامعية في المراجعة الدستورية، من المكاسب التي حققها الحراك الشعبي، هذا إلى جانب ضرورة إعادة الجامعة إلى مكانتها لتكون قاطرة النمو الاقتصادي والاجتماعي من خلال ربط الجامعة بالمجتمع والإنتاج. وأكد أن ملاحقة الحراك من أبرز وأكبر الإيجابيات، من خلال الفصل بين الثروة والثورة أو الفصل بين المال والسياسة. كما أن التأسيس لاقتصاد سوق اجتماعي، من بين الإيجابيات، بمعنى استمرار الدور الاجتماعي للدولة من خلال حماية الفئات الهشة وسكان مناطق الظل كما عبر عنه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون. قبل هذا التاريخ، لم يكن يتصور أي جزائري أن يحاسب الوزراء والمسؤولون السياسيون والأمنيون، رغم ذلك عرف الجزائريون في مسيرتهم شعارات "كليتو لبلاد يالسراقين" وطالبوا بإحالتهم على المحاكم "وهو ما تجسد تدريجيا" حيث يقبع حاليا وزراء سابقون ووزيران أولان سلال وأويحيى في سجن الحراش متهمان في عدة قضايا. كما أعادت العدالة فتح ملفات سوناطراك والطريق السيار شرق غرب، ناهيك عن محاكمة مسؤولين أمنيين من أمثال اللواء عبد الغاني هامل الذي شغل في وقت سابق منصب المدير العام للأمن الوطني، بالإضافة لشقيق الرئيس المخلوع ومستشاره سعيد بوتفليقة، والجنرال محمد مدين المدعو توفيق، واللواء بشير طرطاق مسؤول جهاز المخابرات في وقت سابق.
إعادة هيكلة الجهاز الدبلوماسي قال المتحدث ل«البلاد" إن إعادة هيكلة الجهاز الدبلوماسي بما يقوم على تحقيق المصالح الوطنية وحماية السيادة وتوسيع وتطوير العلاقات مع القوى الدولية التي نتبادل معها المصالح بعيدا عن سياسات الإملاءات والتدخل، مع التركيز على الدبلوماسية الاقتصادية، وعدم التنكر للمبادئ التي اتسمت بها السياسة الخارجية الجزائرية دائما.
كسر حاجز الخوف قال الدكتور والإعلامي، محمد عماري، إن الحراك الشعبي كسر الخوف والرعب، وأعاد جزءا مهما من النخب إلى الاهتمام بالعمل السياسي وإلى الانخراط في قضايا المجتمع. كما أنه أسقط وهم الأسطورة والرجل المعجزة، ورسخ قناعة أن الشعب عندما يريد لا تستطيع أي قوة أن تصده. ويضيف المتحدث أنه حتى داخل الأحزاب، من بينها الموالاة، تدين هي الأخرى للحراك الشعبي الذي حرر قياداتها، التي كانت تتخوف حتى من الدفاع عن قناعاتها، وذلك بعد أن رفع الحراك شعار ذهاب أحزاب الموالاة الممثلة في كل من "الأفلان والأرندي"، التي استولت عليها القوى غير الدستورية.
كسب معركة الهوية والقيم يرى القيادي في حركة مجتمع السلم، ناصر حمدادوش، أن الحراك الشعبي، تمكن من كسب معركة الهوية والقيم، وذلك بالصبغة الحضارية لهذا الحَراك الشعبي رغم زخمه المليوني، إذ حافظ على السّلمية ولم ينزلق إلى أيّ شكلٍ من أشكال العنف المادي، مقارنة مع بلدان الربيع العربي التي غرقت في حمامات الدّم، وهو إنجازٌ يُحسب لجميع أطراف المعادلة، رغم حالات "الاحتقان ومحاولات الاستفزاز واستهدافات الاختراق الآثم". كما أنه من إيجابيات ومكاسب الحراك، تنامي الوعي السياسي وانخراط كلّ مكونات الشعب الجزائري في العمل السياسي والاهتمام بالشأن العام والرّغبة الجامحة في التغيير، والتجريم الجماعي للفساد والتزوير والإدانة العامة للمرحلة السابقة الخادعة. كما أنه أثبت بالدليل الملموس لإمكانية التغيير السّلمي، وكسر رموز الفساد مهما بلغوا من النفوذ والقوة، وتحطيم تلك "الأصنام السياسية والعسكرية والأمنية والمالية والإعلامية" وإسقاط الوسائط الوهمية للنظام حتى تكون عبرة لغيرهم.
الملامح السلبية للحراك رغم ما للحراك من إيجابيات، وما حققه من مكاسب، فإنه لا يخلو فعل إنساني من السلبيات، يرى حمدادوش أن من بين النقائص التي يمكن تسجيلها على الحراك الشعبي السلمي "المبارك: ما تعلق ب«غياب القيادة الموحّدة" و«المشروع الجامع والمطالب المتفق عليها"، معتبرا أنه مهما رُوّج لأفضلية عدم تمثيل الحراك الشعبي والقيادة له والنطق باسمه، للتباينات الكبيرة بين مكوّناته وانعدام الآلية الديمقراطية في تمثيله ولأزمة الزّعامة المستحكمة عند بعضه والخشية من الاستفراد والتدجين لقيادته فإنّ أيَّ مشروع وأيّ ثورة وأي فعل تغييري يفتقد لذلك "لا يُكتب له النجاح"، وسيبقى مفتقِدًا للآليات والإجراءات والأدوات التنفيذية للمشروع والمطالب الشعبية، وهو ما جعل الحراك "ضعيفًا أمام السلطة التي أخذت زمام المبادرة وفرضت خارطتها وأجنداتها". ويضيف المتحدث ما يراه "حالة الاستقطاب والانقسام والأنانية" وذلك من خلال "انفجار" الهويات الفردية والجماعية، وانبعاث الخصوصيات الثقافية والعرقية والإيديولوجية والحزبية والفئوية، والتي "تلوّح في بعض الثورات بمشروع دويلات داخل الدولة الواحدة" لها نفوذها الجغرافي وحدودها الفاصلة، ولها رعاتها وأتباعها وأدواتها، مضيفا "وهي من الأوتار التي تعزف عليها قوى الثورة المضادّة لتفجير الحَراك الشعبي"، ما جعله يطالب ب«الارتقاء إلى البُعد الوطني، والاصطباغ بالمشترك من القيم السّياسية والإنسانية، والجُنوح إلى التوافق الوطني، وليس إلى المزايدات الشّعبوية أو التنافس السّياسي قبل أوانه".