أصبحت لا أعلم أي نوع من المواطنين يخاطبه الساسة وهم يطلبون البيعة والولاية؟ أهو المواطن «المؤمن الكيّس الفطن، الذي لا يلدغ من جحر مرتين» أم المواطن المسلم، الموصوف في الحديث الشريف: «أكثر أهل الجنة البله» الحديث الأول شائع بين الناس متداول، يعلمه الكيّس والأخرق، حتى وإن تواطأ أكثر الناس على صرفه لما يحتاجه المرء من فطنة لتدبر أمور الدنيا، ونسوا أن تدبير أمر الآخرة أحوج للفطنة من تدبير أمور الدنيا، وأن يلدغ المؤمن من ألف جحر تباعا في أمور دنياه، خير له من أن يلدغ في أمر آخرته ولو مرة. أما الحديث الثاني فمهجور، وكأن الفهم القاصر لمقاصده قد صرف المحدثين والدعاة عنه، حتى لا يتوهم أن سيد المرسلين قد فضل المؤمن الأبله على الكيّس من المسلمين. غير أن البله في لسان العرب «جمع أبله وهو ذو البله والبلاهة» والبلاهة هي «غلبة سلامة الصدر وحسن الظن على الإنسان» وقد جاء في لسان العرب في تسمية سليمي الصدر بالبله، «لأن البله أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا أنفسهم بها» ولأجل ذلك استحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة كما جاء في الحديث الشريف. وقد قال بعض العرب: «خير أولادنا الأبله العقول». ويقول ابن حنبل في تفسير قوله «استراح البله»: «الغافلون عن الدنيا وأهلها وفسادهم وغلهم» ونقرأ في التهذيب: «الأبله الذي طبع على الخير فهو غافل عن الشر لا يعرفه». الآن وبعد هذا الاستطراد اللغوي، يحسن بنا أن نعود للسؤال الأول: أي نوع من المواطنين يخاطبه الساسة وهم يطلبون البيعة والولاية في البرلمان القادم؟ فإذا كان المخاطب هو «المؤمن الكيّس الفطن» فإن الخطيب إنما يستبطن الاستغفال، لأن المؤمن الكيس الفطن سيقول له ما قاله الخليفة عمر: «لست بالخب، والخب لا يخدعني». وسيان تعلق الأمر بأمور الدنيا أو بالآخرة، فإن من يطلب اليوم الولاية على أمر المواطن لا حظ له عند المواطن الكيّس الفطن. أما إذا كان إنما يراود «المسلمين البله» بمعنى الحديث الشريف، فإنه يطلب سلعة في غير موطنها، لأن «المسلمين البله» إن وجدوا، فهم قد أغفلوا أمر دنياهم، وجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم يشغلون أنفسهم بها». بقي نوعان من المواطنين يحسن بالطبقة السياسية بجميع أطيافها أن تصرف إليهما جهدها بحظ معقول وربما وافر من التوفيق: الأول: قوم لا يعقلون، ولا يعلمون أنهم لا يعقلون، ذاكرة قصيرة، وخيال قاصر، وبصر حاسر مصاب بعمى الألوان، كلما أسرفت معهم بالوعد الكاذب قالوا هل من مزيد. والثاني: البله من القوم الذين لم يشملهم معنى الحديث الشريف، وقد عرفهم لسان العرب في ثمانية أزواج: أخرق وخرقاء، أحمق وحمقاء، ألوث ولوثاء، وأثول وثولاء، وإن شئت أضفت إليهم الأنوك.