لعل المفاجأة السارة التي تمخضت عن الانتخابات التشريعية الأخيرة، اختيار الدكتور محمد العربي ولد خليفة، رئيسا للغرفة الأولى للبرلمان. وهو قامة كبيرة لها وزنها في عالم الكتابة والفكر، له مؤلفات عديدة في الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتنمية، حاول فيها تشخيص أمراض المجتمع العربي عامة، وتقديم بعض الحلول المساعدة على إخراجه من ظاهرة التخلف الناجمة عن عوامل داخلية وخارجية. ومن الطبيعي أن يركز دراساته حول المجتمع الجزائري، وقد أرّقه هاجس التنمية الذي لم يسر بالسرعة المطلوبة في الماضي، بدليل أن «أغلب فرص التنمية والديمقراطية قد تحولت إلى انتكاسات أعادت عقارب الساعة إلى الوراء». وكتب أيضا في المسألة الثقافية وخاصة في جوانبها اللسانية والهوية. فرغم اكتمال تشكل هويتنا منذ الفتح الإسلامي، فإن الألغام الكولونيالية وأخطاءنا في التعامل مع مكوّنات هويتنا، وغياب رؤية سياسية واضحة إزاء اللغات الأجنبية، قد أدى إلى بروز مشكلة الهوية، وإلى استمرار هيمنة اللغة الفرنسية التي يفترض أنها تكتفي بمرتبة لغة أجنبية وليس إلا. كما حظيت الديمقراطية باهتمامه، باعتبارها أداة إجرائية ضرورية لإنجاح مشروع التنمية الاقتصادية، وترقية المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد. والحال أن المناصب السامية التي شغلها في دواليب الدولة، لم تحل دون ممارسته للكتابة الجادة، فهو مواظب على متابعة التحولات في دواخل المجتمع، ويسعى دائما إلى تنوير الرأي العام، من أجل دفع الأوضاع في الاتجاه الصحيح الذي يخدم الصالح العام. ويطرح أسئلة هادفة تسير بنا نحو الأفضل، ويقدم أفكارا بناءة تساعد على رسم معالم السياسة الرشيدة. فهو يكتب من أجل ترقية وطنه وإسعاد مواطنيه، دون التفريط في العالمين العربي والإسلامي، آخذا بعين الاعتبار ما يستجد على الساحة الدولية من تدافعات فكرية. ومن أهم مؤلفاته التي عالجت الجوانب السالفة الذكر، أذكر على سبيل المثال لا الحصر: المدرسة والجامعة الجزائرية. التنمية والديمقراطية في الجزائر والمنطقة العربية. الأزمة المفروضة على الجزائر. الجزائر أبعاد ومعالم. الجزائر والعالم. المجتمع الجزائري في مخبر الإيديولوجية الكولونية، وغيرها. هذا ولا شك أنه استفاد من تجاربه الواسعة في تسيير شؤون الدولة عند وضع هذه الكتب، وعليه جاءت حاملة لبعض الحلول الواقعية. وبالنظر إلى تجربته الزاخرة بالكتابة العلمية وتسيير شؤون الدولة، فلا شك أنه يملك تصورا لخارطة الطريق التي من شأنها أن تدفع بالمجلس الشعبي الوطني في الاتجاه الصحيح، أي نحو الممارسة الديمقراطية التي تكرس استقلالية المجلس، باعتباره سلطة تشريعية ورقابية، تجسد السيادة الشعبية. ومن جهة أخرى، فإن مصداقية الرجل ونظافته، تؤهلانه لتفعيل الآليات القانونية لترشيد النفقات ومحاربة الفساد، بدءا بالمؤسسة التي يشرف عليها. وإذا كانت مقولة «الرجل المناسب في المكان المناسب» قد تحققت هذه المرة، فإن الإشكال يكمن في مدى توفر الإرادة السياسية لدى النظام السياسي القائم، من أجل التغيير، وبعبارة أخرى هل سيتمتع رئيس المجلس بهامش من الحرية الذي يمكنه من تنفيذ أفكاره الإصلاحية التي طالما كتب عنها، وتجاوب معها المواطنون، وانتظرها الجمهور بشغف؟ وعلى أي حال فإن وزن الرجل أكبر من أن يتصوّره أحد في حال الاكتفاء باستنساخ إخفاقات الماضي، ولا شك أنه سيسعى لتتويج مساره الطويل بعهدة برلمانية موفقة وناجحة يرصّع بها حياته، وترفع له ذكره.