لم يسعدني الحظ بزيارة جمهورية الجزائر، لم أر عنابة ولم أتمشَ في وهران ولم أتنسم بعض الهواء في ساحة الشهداء، وإن كانت تلك الزيارة مزمعة في الحسبان والخطط قريبة المدى. وبرغم عدم سفري للجزائر من قبل، إلا أنني خبرت الجزائر تماما، عرفتها من أهلها وأبنائها ورموزها وقادتها وثورة تحريرها البهية والفتية.. عرفت معنى الصلابة والعهد والتفاني في حب الوطن، وعرفت كيف يغلّب هذا الشعب عقله على عواطفه ويفضل رفعة الوطن على أي اختيار آخر. ومن هنا يكون السؤال المطروح: كيف نحتفل بالجزائر؟.. أم ربما للدقة أقول كيف نحتفل مع الجزائر في ذكرى عرسها الأكبر، «وبيلها الذهبي»، ذكرى استرداد كامل السيادة الوطنية على تراب الجزائر من أقصاها إلى أقصاها؟. الحقيقة لا أرى أن الكلمات قد تفي بالغرض، المعاجم والقواميس فقيرة للغاية أمام ذكرى الحدث الذي شكّل في حينها ضربة مهولة ل«الكلونيالية» العالمية، وأضاف رافدا ضخما وخصبا لمسار النهضة العربية. جبهة التحرير الوطني.. مدرسة الشهداء والعظماء خمسون عاما انقضوا منذ رحيل المستعمر الفرنسي عن الجزائر بعد ملحمة خرافية سطرها الشعب الجزائري بكل عناصره، محققا ثورة ستظل إلى الأبد وفقا للأرقام ووفقا لشواهد القبور، وأشلاء المجاهدين، وفقا لكل ما يمكن أن تقاس به الثورات، ستظل الأكبر على مستوى العالم. خمسون عاما لا يحكم فيهم الجزائر إلا جزائريون، وهذا في حد ذاته أمر طبيعي في عصر مابعد الاستعمار، لكن الجميل بالفعل، هو أن يكون ذلك الحكم، هو سليل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، تلك المنظومة الخالدة في التاريخ التي أعطت الكثير، الكثير فعلا ودون أي نوع من التجميل، وهذا طبيعي نسبةً إلى أن عدد المنتسبين للجبهة وصل إلى 180000 مواطن في تلك الفترة التي لم يتجاوز فيها عدد المقيدين الذين أتيح لهم التصويت في استفتاء الاستقلال «اتفاق ايفيان» قرابة ستة ملايين فرد. أوطاني.. لفرحتي بهذه الذكرى أسباب وأسباب، فأنا كمصري، أعرف بدقة تفاصيل التاريخ المشترك العريض الذي جمع الوطنين في تحالف سري ومعلن في آن، فبخلاف المساهمة المصرية الموثقة تضامنا مع ثورة الشعب الجزائري في مطالبته بحقه لتقرير المصير، جاء الرد الجزائري السخي، الفياض، ففي أيام 9، و10 و11 أكتوبر وصلت للأراضي المصرية الأسراب الجزائرية «سوخوي 7» و«ميغ 17 « و«ميغ 21»، بخلاف إيداع 200 مليون دولار مناصفة بين مصر وسوريا من طرف الحكومة الجزائرية. لهذا التاريخ من الدم والكفاح المشترك، يطربني أن أشارك الجزائريين بهجتهم بيومهم الوطني. ويطربني أكثر أن أرى سحابة الصيف التي رافقت مباراة الكرة إياها وقد مضت لحال سبيلها، تلك اللحظة المسيئة للطرفين والتي ثبت أنها لم ترتق لدرجة تلويث التاريخ المشترك بين الشعبين. ومن هنا أكرر مبروك للشعب الجزائري تحرره المستمر حتى اللحظة، والمتواصل – إلى يوم يبعثون – بمشيئة المولى ثم برصانة القيادة الجزائرية ووعي الشعب الثائر والمكافح. «الورد اللي فتّح في جناين الجزاير» لن أستطيع بحال من الأحوال أن أقدّر الإضافة الحضارية الإقليمية التي جناها شعب الجزائر والشعوب الشقيقة بعد ثورة التحرير، لا يجوز لأي كان أن يزن المكتسبات التي جنتها الدولة الجزائرية قيادة وشعبا مع التحرر، لذلك، سأحاول تضييق مساحة البحث، والخوض في مجال تخصصي، الأدب، السرد تحديدا قصة ورواية. الحقيقة أن الأسماء الجزائرية سواء التي تكتب بالعربية أو الفرنسية غزيرة بشكل لافت، فمع توهج الثورة برزت أسماء عظيمة مثل محمد ديب ومالك حداد وكاتب ياسين والشاعر مفدى زكريا، مشكلين قاعدة صلبة للأدب الجزائري، تحديدا السرد الجزائري، ومع انتصار الثورة وبدء الحراك السياسي الوطني تحت راية «الأفلان» برزت دفعة جديدة من الأسماء الوطنية التي امتدت عبر العقدين المواليين للثورة، فعمي الطاهر وطار وعمي واسيني الأعرج وبوفاتح سبقاق والسيدة أحلام مستغانمي وغيرهم، أحدثوا فرقا حقيقيا في مسار السرد الجزائري ليمنحوه ملامح وسمات خاصة، مع استمرار توافر الجزائريين ممن يكتبون بالفرنسية، وللتمثيل فقط لا الحصر نذكر مراد يوربون وآسيا جبار وبوعلام صنصال ورشيد بوجدرة وياسمينة خضرا وديب ومولود معمري وفرعون وحتى أحدث التجارب الجزائرية متمثلة في الروائي عمارة لخوْص الذي يكتب بالإيطالية والعربية. ثم يأتي الجيل الحالي، جيل التفاصيل الصغيرة والهموم الكبيرة، إذ يقدم الأدب الجزائري في هذه الأيام طليعة كتّابه المجددين والرائعين أيضا، نذكر منهم للمثال لا الحصر سمير قسيمي المرشح في جائزة «البوكر» الجائزة العالمية للرواية العربية العام 2009، وبشير مفتي المرشح في جائزة «البوكر» أيضا في آخر نسخة، والخير شوار وطيب لسلوس وإسماعيل يبرير وفريد هدى وعبد الرزق بوكبة وميلود حكيم ومحمد جعفر والشاعر الكبير والمخضرم بوزيد حرز الله وكمال قرور وغيرهم الكثير. لا يحتاج الأدب الجزائري لتعريف، ويضيق المقام هنا عن ذكر كل الأسماء التي تثبت يوميا أن الأدب الجزائري يمشي كتفا بكتف مع المسيرة الحضارية للجزائر، مع ثورة التحرير ومع الحراك الستيني والسبعيني ومع العشرية السوداء التي ذهبت بكل ألمها. وأخيرا مع مرحلة الاستقرار والتنمية والإصلاحات الاقتصادية الحالية والتي تشبث بها الجزائر قيادة رصينة وشعبا راق ومتفتح. الزخم الأدبي الجزائري، هو أحد وجوه مرحلة الاستقرار والتنمية، والشعب الجزائري العظيم أعلن بصراحة أنه لا يريد سوى مواصلة مسيرة الإصلاحات الموفقة والتشبث بركب الدولة الحديثة الذي تخوض الجزائر مضمارها فيه بثبات وثقة. وعليه، أستطيع أن أصف بثقة، هذه الأسماء الجزائرية الراقية، بأنها الورد الذي تفتح في حدائق الجزائر وبساتينها، وردات زاهيات تعكس مستوى الرقي والاستقرار الذي بلغه الجزائري وحصدها على مدار عقود بدأت في الخامس من يوليو مع انتصار إرادة الشعب، واستمر عبر سنوات حتى وصل للمحطة الحالية التي تشهد زخما جزائريا في شتى الميادين. أيها الجزائريون، ويا نخبة الجزائر المثقفة، يا شعب الجزائر البهيّ والصافي، كل عام وأنت بألف خير، نقرأ سويا الفاتحة للشهداء، ولتواصلوا مسيرتكم، البلد بلدكم والدار داركم.. لا يحكم الجزائر سوى أبناء الجزائر.. فلا تفرطوا أبدا في أمن واستقرار الوطن .