عرفت الجزائر في فترة الاستعمار كتابًا فرنسيين من أمثال ألبير كامي لكن ظل "هناك فرقًا ملحوظًا بين الأدب الذي كتبه الجزائريون وبين ما كتبه الفرنسيون وإن كان بلغة واحدة وفي بيئة واحدة وهذا الفرق يتمثل في الرؤية" لقد منح الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية ومنذ بدايته الأولى بعدًا إنسانيًا وأولوية للمسألة الوطنية والهوّية الجزائرية واعتبرهما جزءًا لا يتجزأ من كيانه والتزم بهما ما قدر على ذلك. وتظل أعمال محمد ديب، كاتب ياسين، مولود معمري وغيرهم وكأنها أعمال كتبت بالعربية ثم ترجمت إلى الفرنسية لأنها حملت بصدق آلام شعبهم كما سجلت معاناته وأحلامه وكانت شاهدًا على همجية الاستعمار وجرائمه. كما سمى الشارع الفرنسي أراغو ثلاثية محمد ديب بمذكرات الشعب الجزائري واعتبره بلزاك الجزائر بفضل جهوده الإبداعية وتمثيله الجاد لمشاكل ومعاناة بيئته الوطنية. إن الدافع الذي أملى على هؤلاء المبدعين استعمال اللسان الفرنسي هو عدم أجادتهم للغتهم العربية، فالأمر عندهم لم يكن خيارًا بقدر ما كان ظرفًا تاريخيًا وحتمية لا سبيل إلى تجاوزها، وهذا ما حاول مراد بربون عكسه عندما أعلن: " إن أية لغة إنما تكون ملكا لمن يسيطر عليها ويطوعها للخلق الأدبي أو يعبر بها عن حقيقة ذاته القومية"، كذلك قال مالك حداد:" نحن نكتب بلغة فرنسية لا بجنسية فرنسية". لكن كيف سيكون حال مالك حداد وماذا سيقول لو اطلع على الأعمال المكتوبة باللغة الفرنسية اليوم؟ لقد أعلن محمد ديب عقب استقلال الجزائر قائلا:" الآن انتهت مهمتي اتجاه الجزائر"، وكتاباته اللاحقة راحت تكرس لهذا الإعلان كما جاءت أعماله اللاحقة مخيبة لأمال القارئ الجزائري عندما افتقد فيها بيئته والشخصيات المعروفة لديه كما افتقد المخزون التراثي الضخم للكاتب، كذلك لم يعد يذكر للكاتب اليوم إلاَّ ثلاثيته الشهيرة. لقد تميزت كتابات بعض الكتاب عقب الاستقلال بالجدة والتجديد، لكن ما قُدم من ناحية الشكل والمضمون يعتبر تراجعًا وانتكاسة في حق الرواية المكتوبة بالفرنسية، كذلك جاءت أعمال بعض الكتاب مخيبة لتطلعات جماهيرها، وإن تحقق ذلك بنسب متفاوتة وعلى درجات أقل خطورة أحيانًا. إن بعض أعمال أسيا جبار، رشيد بوجدرة، حميد قرين، وأخيرًا ياسمينة خضرة تكاد لا تتوفر على الحد الأدنى من الانتماء لبيئتها الوطنية ولا يكاد يشملها التعريف المحدد للرواية الجزائرية، كما أن المطلع على آخر إنتاج لياسمينة خضرة وهي رواية المعادلة الإفريقية الصادرة هذا الأسبوع بباريس عن دار جوليار جاء ليؤكد هذه القاعدة، حيث تناول الكاتب ظاهرة القرصنة في السواحل الصومالية على غرار أعماله السابقة التي كرسها لمعالجة ظاهرة الإرهاب عبر العالم (سنونوات كابل، الصدمة، أشباح الجحيم). وبطل هذا الكتاب الأخير طبيبا ألمانيا يلتقي في أحد السجون الصومالية ببطل آخر فرنسي الجنسية. وما يكرسه العمل هو محاولة إبراز الدور الأوروبي في العمل الخيري الإنساني الموجه إلى القارة السمراء التي تلتهمها الحروب وتنخرها النزاعات، ليحمل العمل في الأخير سمات الآخر ويحمل الكينونة الغربية وينادي إليها. إن ما يصرح به هؤلاء الكتاب يكاد يكون مناقضا مع سلوكهم الفعلي وإبداعاتهم على وجه الخصوص، فهم يحرصون على أمور أخرى تشكل لديهم الدافع الحقيقي للكتابة، أما مكانتهم فقد روّج لها وصنعها الإعلام الغربي، ثم إنهم احتلوا مكانتهم في الوطن من خلاله، كما أضفى الإعلام والسلطة عندنا -وهما معروفان بالتبعية- نوعًا من القدسية على إنتاجهم لكن مجرد مقارنة بسيطة بين أعمالهم وأعمال أخرى مكتوبة بالعربية (أنظر أعمال واسيني الأعرج مثلاً) قد تضع انجازاتهم على المحك. الجميع يدرك اليوم أن الجزائر ليست بخير وما نحتاجه في الوقت الراهن إبداعات تكرس الواقع الجزائري وتجلوه. ثم إن الالتزام بالقضية الوطنية والانتماء العربي والإسلامي هو السبيل الأوحد لمواجهة مختلف التحديات التي تحاصرنا، وهذا لا يتأتى إلاّ عبر محاولة جادة هدفها لم الشمل ومحاولة التقريب بين الجهود التي تبدل في الرواية الجزائرية ذات اللسان الفرنسي وأختها المكتوبة بالعربية، وإعطاء الأولوية لخلق ثقافة التقارب والوحدة والتي هي السبيل الأوحد لدعم أسس الرواية الجزائرية والنهوض بها. كذلك لا يتحقق هذا الانجاز إلاَّ عبر تبني رؤية واضحة المعالم تشكلها المعاناة والجهاد والبحث على أكثر من مستوى ويكون الهدف فيها مخاطبة الأقرب ثم الأبعد، ولقد حقق نجيب محفوظ عالميته انطلاقًا من حواري وأزقة القاهرة الشعبية. إن ما يجب أن نضعه نصب أعيننا هو عدم السقوط واللجوء إلى محاولة استمالة الآخر وخطب وده ومحاولة الترويج لأفكاره وتطلعاته على حساب بيئتنا المحلية وأفكارنا ومعتقداتنا التي ناضلنا لأجلها وخضنا حربًا شرسة في سبيل استرجاعها، وإلاَّ فسنكون فرنسيو الجنسية إلى جانب اللسان الفرنسي ونؤكد حقيقية لطالما جاهد مالك حداد وغيره ليفندوها..