إنه لفيض رائع و عبق جميل ذلك الذي غمرني و أنا أسامر إحدى جدَّاتي هذه الليلة ، و الذي جادت علينا به هاته الليالي المباركات من الشهر الكريم ، و بينما أنا أتبادل معها أطراف الحديث و طرائفه ، حتى ساقنا حديثتا بعفويته و بسْطَتِهِ و أرْيَحِيَته عن شهر رمضان ، إلى مداعبة حنين الذاكرة الجميل لديها ، لعبق الزمن الأجمل ، حيث سافرت بنا إلى إشراق هذا الشهر الكريم قديما في مدينتنا ، و كيف كان الناس يتطلعون ليلة الشك بشغف إلى رؤية هلاله الكريم ، و الشيء الذي أذهلني هو تلك الطريقة التي كانوا يقتفون بها الهلال في زمن لا يوجد به لا كهرباء و لا مذياع و لا أي من وسائل التواصل بينهم ، كالتي هي بين أيدينا في زمننا الحاضر ، فتجد معظم المدن التي بنيت على ضفاف الوادي الساورة قد تعرف فيه الصوم أو العيد باختلاف بينها أحيانا ، فتجد بعضها صائم وبعضها مفطر أو في صباح العيد ، لذلك أسسّوا لهم في ذلك الزمن لجانا خاصة لمراقبة الأهلة من كبار علماء و أعيان المنطقة في كل مدينة ، من الذين يشهدون لهم بالإيمان و الصدق و الأمانة ، و الطريف و المذهل و الغريب في الأمر كله هو كيفية ترقب هلال رمضان او هلال العيد ، حيث كانو ينزلون ليلة التحري إلى الوادي ، و يقتفون الهلال في برك الماء التي يخلفها الوادي في مجراه ، و السر في ذلك هو أن إنعكاس الهلال على الماء بوضوح أكبر منه في الأفق ؛ و ذلك أن البركة تغطِّي في إنعكاس صورة السماء عليها مساحة صغيرة من منطقة الغروب ، ما يوفر لهم رؤية أدق و أوضح منها في التحري مباشرة بالعين في الأفق ، فإذا ثبتت رؤيته استبشروا لإشراقه البهي ، فَيَهمُّ جدّي إلى إطلاق البارود إذانا بطلوع شهر الرحمة و الغفران و لسان حالهم يقول " الهلال ينزل على الماء " فسبحان الله العظيم الذي جعل شهر الرحمة ، يتواضع لعباده ، إذ طلع عليهم في بركة ماء ، رحمة ورأفة بهم ، كي يستبشروا و يبشروا به العالمين من حولهم . و الشئ الجميل الذي راقني في هذا السمر السعيد ، هو أن الثقافة التي تزرع في الأنثى لا تموت ، فهي الأم و الجدة التي ترويها للأبناء و الأحفاد و هي معلمة وصانعة الأجيال . فهنيئا لنا بعبق هذا الشهر الكريم و هو يملأ قلوبنا و بيوتنا رحمة و مودة و إخاء .