بدأ عبق رمضان الزكي، ينبعث من جميع الأزقة والشوارع عبر كامل ربوع القطر الجزائري، إيذانا منها بمجيء خير الشهور عند الله، فتزينت بيوت الرحمان، لاستقباله بما يليق بمقامه الرفيع، واجتهدت ربات البيوت في تجميل منازلهن بأبهى حلة، وحتى الأسواق والمحلات التجارية أبت هي الأخرى أن تستقبله بحلة مميزة، إذن شهر الرحمة والمغفرة الذي يطل علينا مرة في السنة على الأبواب، ولهذا عمد الجزائريون المسلمون على التحضير الجيد لأنفسهم لمجاهدة مشاق الصيام، قصد نيل الآجر والثواب، من خلال محاولة تغيير بعض سلوكياتهم وتهذيب أنفسهم. رمضان.. شهر المحبة والرحمة والتساوي بين الطبقات الاجتماعية أيام قلائل تفصلنا عن شهر من خير الشهور عند الله، الفوائد فيه كثيرة والأجر فيه مضاعف والنفوس فيه تتغير وتتهذب ، تفتح فيه أبواب الجنة وتصفد الشياطين وتمتلئ فيه المساجد بعباد الرحمان، وتنزل على القلوب السكينة والرحمة، إنه شهر رمضان الكريم، والأجمل ما في هذا الشهر العدالة الاجتماعية بحيث تتساوى كل الطبقات والشرائح لا فرق بين غني وفقير، رجل أعمال وموظف، رجل وامرأة...كل فيها سواء . ليس في الجزائر فحسب بل على المستوى العالمي فكل المسلمين في العالم يتوحدون ويترقبون هلال رمضان و يصومون في وقت واحد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويفطرون في وقت واحد بعدما يسمعون كلمة الله أكبر تعلوا مسامع كل الناس فيصلون ويذكرون دعاء الإفطار ويحمدون الله تعالى على هذه النعمة ويتذكر كل مفطر جاره، بل ويتبادلون الأطعمة والفرحة مرسومة على محياهم ووجوههم، بعدها يتوجهون لأداء صلاة التراويح صف واحد ويتبادلون السهرات والزيارات الليلية...، أليست هذه بعدالة ربانية كما أن شهر رمضان مقسم على ثلاث أوله رحمة ووسطه مغفرة وأخره عتق من النار أعاذنا الله من النار، وفي الأخير يفرح المؤمنين لأن لهم فرحتان فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرحمان . أما فرحة الإفطار ففيها يتذكر الغني الفقير وتمنح الزكاة لمستحقيها وهي حق وواجب يثاب فاعلها ويعاقب تاركها لأنها حق من حقوقه. بالإضافة إلى أن الصدقات الأجر فيها يتضاعف والرحمة تسود القلوب أدامها الله علينا في كل الشهور والأوقات أمين. تحضيرات مكثفة تسبق حلول الشهر الكريم حتى وأن اختلفت العادات والتقاليد في الجزائر من منطقة لأخرى نضرا لشساعة المساحة الجغرافية، إلا أنها تتوحد في شهر رمضان المبارك، فتكاد تكون التحضيرات له متطابقة من الجنوب إلى الشمال وشرق البلاد وغيرها، فالمرأة الجزائرية التي تربت في أجواء إيمانية منذ نعومة أظافرها تعي مدى أهمية الضيف الذي يطرق بابها، ولهذا تعمد على استقباله بأبهى حلة، فبعدما تقوم بالتنظيف الجيد لكل ركن من مسكنها، أو تغيير طلائه حسب إمكانياتها المادية، تنتقل إلى تحضير الأواني المناسبة، وهنا تعمد معظم العائلات على اقتناء بعض الإطباق وأواني الطهي الجديدة، ويفضل أن تكون تقليدية الصنع خاصة من الفخار الذي تعددت أشكاله وأولنه وحسب طبيعة المنطقة، لتنتقل بعدها إلى تحضير بعض مستلزمات المطبخ كالمواد الأولية في عملية الطهي خاصة "الفريك" المصنوعة من القمح الصلب، التي تعد أساسية في تحضير طبق الشربة، حيث تقتنى هاته المادة الغذائية قبل أيام لتنقى وتوضع في أواني مناسبة، في حين تعمد أسر أخرى إلى تحضيرها في المنزل، وللتوابل أيضا نصيب في مائدة رمضان هي الأخرى تقتنى وتوضع في علب لحفظها بأمان، وكل هذه التحضيرات ليست عبطية وإنما لغاية ونية مسبقة وفي هذا الصدد أوضحت بعض السيدات، أن سبب التحضير المسبق لرمضان هو "للتقليل من الأعباء المنزلية الملقاة على عاتق المرأة من طهي لأنواع مختلفة من الإطباق، للتفرغ لممارسة العبادات الدينية على أكمل وجه من الصلاة وختم القرآن الكريم، وتبادل الزيارات مع الأرحام...لنيل الأجر والثواب الكامل في شهر الرحمة". تجميل بيوت الرحمان، وواجهات الأسواق تلفت الأنظار بيوت الله هي الأخرى، يأبى القائمون عليها أن تستقبل ضيفها إلا في صورة تليق بمقامه الرفيع، فتنطلق إجراءات التحضير قبل حلوله بشهور من خلال إعادة طلاء المساجد وتطهير كل أركانها، من سجادات وثريات، علاوة على اقتناء ما يستلزمها من مكيفات وسجادات ومصاحف لاستقبال هذا الشهر الكريم . في حين يستقبل التجار وأصحاب المحلات التجارية أيضا الشهر الفضيل بطريقتهم الخاصة، فيعملون على تزيين واجهة المحلات بما لذ وطاب من المواد الواسعة الاستهلاك في شهر الصيام، وتعرض هاته السلع بطريقة مميزة تلفت الأنظار إليها، من فريك وعقاقير وأواني ومواد غذائية التي يكثر الإقبال عليها مثل التوابل خاصة رأس الحانوت وفلفل اسود والكمون والعكري والقرفة ....إلى جانب مكونات طبق اللحم لحلو التي تسحر كل زوار المحل نظرا لألوانها الجذابة كالعينة والزبيب والمشمش المجفف والمكسرات وغيرها ، وحتى محلات الزلابية والقلب اللوز تعود إلى الواجهة من جديد قبيل أيام من رمضان. التقليل من القهوة والتدخين والنرفزة ضمن التحضيرات يولي الجزائريون عناية خاصة لشهر رمضان المبارك، ولذا يشرعون في تغيير بعض السلوكيات الخاطئة والعادات التي اقترنت بهم طيلة 11 شهر من السنة، تماشيا مع قدسية شهر التوبة والغفران، فإن اجتهدت المرأة في تنظيف وترتيب منزلها، والتاجر في تصفيف محله، والمصلين في تجميل بيوت الله، فحال الرجل الجزائري لا يختلف كثيرا، فهو الأخر يسعى لضبط نفسه، ويعمل جاهدا لتغيير بعض العادات التي التصقت به في الشهور الماضية، ومن بين ما يعكف الجزائريون على محاولة تغييره هو مجاهدة أنفسهم للتقليل من حدة القلق والنرفزة على أبسط الأشياء، أو التلفظ بالشتائم والسب، نضرا لما يتحلون به من إيمان خالص في قلوبهم، ناهيك عن تدريب النفس وترويضها على تحمل العطش،والتقليل من ساعات النوم الكثيرة في وضح النهار، كما يعملون جاهدين على التقليل من آفة التدخين، ولذا شرع بعض المدمنين على السجائر مع بدا العد التنازلي لضيفهم الكريم، في التفكير في مقاطعة التدخين، أو التقليل منه بأكبر قدر ممكن حسب درجة الايدمان، احتراما لضيفهم الكريم، ويقاسمهم الأمر المدمنين على مشروب القهوة، وهذا كله من أجل التكيف مع الصيام دون أعراض لألام الرأس التي كانت تسكنها فناجين البن، أو سيجارة تبغ التي كانت بدورها تطفئ نار الغضب ، وفي أطار التحضيرات أيضا يسعى حاليا في هاته الأيام المباركة من شهر شعبان بعض المتخاصمين للصلح فيما بينهم، طمعا في نيل المغفرة، ومنهم من يسدد ديونه ، ومن يقدم الصدقات لمستحقيها من الفقراء والمحتاجين، وحتى المساجد بدأت تكتظ بالمصلين في محاولة منهم لتعويد أنفسهم على أداء الصلوات في بيوت الله . وأن دلت هاته الترتيبات المسبقة الداخلية والخارجية، التي يتسابق الجزائريون لإكمالها، من أجل استقبال خير الشهور عند الله، على شيء فإنما تدل على الإيمان الخالص النقي الذي يتحلون به في قلوبهم، التي مازالت تنبض بذكر الله، حتى وأن كانت بعض تصرفاتهم الخارجية توحي بعكس ذلك أحيانا.