يقال إن '' العين هي التي تأكل'' أو في تعبير آخر '' الشبع بالعين''، وبهذا يسبق منظر عرض الطعام وشكله طعمه ولذة مذاقه، فكل سيدة تحرص على إعداد الولائم، وتحضيرها بأجود الأواني وأحسنها وتقديمها على أفخم قالب، ولاسيما في الولائم التي يدعى لها الأهل والأقارب والأصدقاء في الشهر الكريم، ومن هنا تزداد زيارة السيدات وربات البيوت لمتاجر الأواني وأدوات المطبخ والطعام والشراب قبيل شهر البركات، وكأن أواني الشهر السابق ما عادات تستطيع الوفاء بغرضها، أو بالفعل شبعت منها العين قبل أن تستغل ثانية، وحتى أفرشة بيت القعدة هي الأخرى، تجدد مع قدوم كل شهر رمضان. فيا ترى أين يكمن السر في ذلك؟ هل عادة اكتسبت عن الأجداد أم موضة تتماشى مع العصر؟ يتضح لنا من خلال قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ''للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربّه'' أن الصائم في شهر رمضان ينال أجر صومه بالسعادة الغامرة واللهفة البالغة، والأجر العظيم عند لقاء رب العالمين بكثرة التعبد، وكف النفس عن الأخطاء والمحرمات، وبسعادة أخرى تتجلى على وجه الصائم وأهله حول مائدة الإفطار بحلول وقت كسر غريزة الجوع بعد غروب الشمس، فيبدأ بدعاء الإفطار وتناول التمر، وما أُعد من حوله من طعام في ورشة عمل يومية -إن صح التعبير- تعج بالأواني وأدوات التحضير والمؤن داخل المطبخ، تنهمك فيها سيدة البيت بإعداد أشهى الوجبات المتنوعة، استعداداً لموعد الإفطار. انتعاش في سوق الأواني استعداداً لموائد الإفطار سرعان ما بدأت العائلات الجزائرية والعاصمية على وجه الخصوص، بالتحضير لاستقبال هذا الشهر الفضيل بعد تمضيتها الإجازة الصيفية، تحضيرات مسبقة ومكثفة. وتبقى بعض العادات القديمة والراجعة إلى زمن القصبة، موجودة في الكثير من البيوت الجزائرية، ولعل من أهمها الطبخ في الأواني النحاسية القديمة أو الاواني الجديدة باعتبارها تعطي نوعا من الديكور الجذاب في شهر رمضان. ويعتبر اقتناء أوانٍ منزلية جديدة في شهر رمضان عادة من العادات التي لا تستطيع أغلب العائلات الجزائرية الاستغناء عنها، فتجد كثيرا من النساء قبل حلول الشهر يتجولن في الأسواق بحثا عن ما سيزين به طاولة الإفطار كفال جديد أو كعادة تعوّدن عليها خلال حلول هذه المناسبة العظيمة. وككل سنة يتكرر سيناريو الازدحام داخل الأسواق الشعبية، المجمعات التجارية التي تضم محلات الأواني المنزلية، بيع أقمشة ''الشورى''، والأفرشة الجاهزة، تجدها تعج بالزبائن والزبونات لتجديد واقتناء، لتطليق وتغيير كل ما هو قديم، وحتى محلات بيع الخردوات والعقاقير الحديدية، هي الأخرى تشهد توافدا عليها لشراء الطلاء لتزيين منازلهم أو تبديل الحنفيات ومستلزمات أخرى. إن الإقبال على شراء الأواني وأدوات المطبخ واضح، وفي تزايد مستمر ما قبل شهر رمضان كل عام، وأكثر الأنواع بيعاً، وجدناه ونحن نتجول بالأسواق الشعبية، إذ تشهد نوعا من التغيير لدى تجارها بعدما كانوا يعتمدون على بيع حلويات ومختلف المشروبات الغازية، وميلهم إلى بيع كل ما يخص المنزل وإدخال عليها نكهة وألوانا مزركشة جذابة، تجذب عين المارة حتى أنك تجد نفسك داخلها تتفحصها وملزم باقتناء كل نوع منها، ورغم أسعارها المتفاوتة والباهظة الثمن، إلا انها تجد من يقتنيها، وخاصة السيدات الجزائريات اللائي أضحين ينظرن إلى جمالها ونوعها، دون مراعاة ثمنها. وعلى عكس النساء الجزائريات اللائي يرغبن قي اقتناء الجديد من المستلزمات المطبخ ومائدة الإفطار، فكثيرات منهن يفضلن الاحتفاظ بالأواني الفخارية سنة بعد أخرى، وهو تقليد راسخ يتم توارثه عن الجدات، كالقدر الفخاري وكسكاسه الذي تفضل الكثير من النساء بالأخص العاصميات طهي حساء ''الشربة'' فيه، أو ''طاجين لحم الحلو'' أو ''المتوم'' وكلها أطباق هي في الأصل عتيقة، وطهيها في الأواني الفخارية القديمة، يجعلها بالفعل تختلف من حيث الذوق واللذة عن الكيفيات التي يتم طهيها في باقي مختلف أنواع القدر حتى الفاخرة منها. العاصميات يودعن الأواني القديمة والأفرشة التقليدية وفي هذا الصدد كانت لنا فرصة التحدث إلى بعض النسوة المولوعات باقتناء الأواني وأدوات المطبخ، التقينا بهن بمحلات وأسواق بيع الأواني المنزلية بكل من بلدية عين البنيان، الشراڤة، باب الوادي، وميسوني، ومن خلال حديثنا معهن أكدن كلهن على رغبتهن في تجديد الأواني وتغييرها قبل شهر رمضان كل عام، وهو سبب من أسباب زيادة ارتيادهن لمحلات الأواني هذه الفترة، حيث أفادت السيدة خديجة التي وجدناه بالمركز التجاري بميسوني، تشتري أشكالا وأحجاما متنوعة لمختلف اواني الطعام كسلة الخبز، وصحن السلطة، وصحن الشربة وأواني نوع السيراميك، بإمكانية استخدامها داخل الفرن والميكروويف، مفضلة اللون الأبيض بالإضافة إلى الأباريق والفناجين، لكثرة استخدامها في رمضان والعيد قائلة، ''صحيح أنني لا أحتاج إلى كم هائل من الأواني الجديدة فوق ما عندنا في المطبخ، ولكن فرحتي بقدوم رمضان تجعلني استعد له بكل ما هو جديد، كما أفعل في التحضير للأعياد بشراء الملابس الجديدة والحلويات، فضلاً عن كثرة الولائم والزيارات''. لتشاطرها السيدة جميلة الرأي فتقول ''أحب تغيير الأواني القديمة بأخرى جديدة، لما تزداد في رمضان السهرات وتجمعات الأهل والأصدقاء، وأكثر ما أحرص على تجديده القدر بأحجام مختلفة لطهي الشربة ومختلف الأكلات والصحون بأشكالها المختلفة وأباريق القهوة والشاي، وذكرت الحاجة فاطمة ذات الأصول القبائلية، هي الأخرى أهم أسماء الأواني والأدوات التي تستخدمها كطاجين المطلوع، والقدور للطبخ وأوانٍ من صحون وأكواب فخارية ذات الأصل الامازيغي وغيرها قائلة ''إن عدد أفراد عائلتي كثير، فهي متكونة من أولادي واحفادي يجتمعون عندي كل رمضان، فأحتاج لكم من الأواني والصحون والأكواب''. ..وبيوت القعدة ''السهرة الرمضانية '' تلبس حللا جديدة مزركشة تحرص العائلات الجزائرية كلما حلّ الشهر الكريم، شهر رمضان، أن تستقبله بغير ما تستقبل به بقية شهور السنة، فهو بالنسبة لها الضيف العزيز الذي تترقب طلته ولا تملّ قعداته، ولا غرو أن تسميه العجائز والأمهات منذ آلاف السنين ب «سيدنا رمضان» تعظيما لمكانته، وتبجيلا لقيمه التي تدفع بالعائلات إلى الاستعداد له بدءاً بتنظيف البيت تنظيفا جذريا، إلى اقتناء الجديد من أطقمه المائدة والمفروشات التقليدية، وانتهاء بضبط عقارب الساعة على وقع شهر الصيام روحيا ومعنويا، وتسيطر ثقافة التغيير بشكل ملفت في رمضان لدى غالبية الأسر الجزائرية، ينعكس ذلك على حملات التنظيف التي تشهدها بيوت الحضر أو البدو منذ النصف الثاني من شهر شعبان، حيث تعمد خلالها الكثير من العائلات إلى إعادة طلاء البيت بالأخص الأفنية الخارجية بمادة ''الجير الأبيض'' بالنسبة ل''ديور عرب'' كما تنعت بالجزائر، كرمز للطهارة والنقاء والصفاء، فرمضان في قاموس الأمي والمتعلم والكبير والصغير، هو شهر لطهارة المكان والأبدان وصفاء السرائر ونقاء الأنفس. ففي رمضان تلبس البيوت حللا مزركشة جديدة، تتفنن في صنعها أو شرائها ربات البيوت، فليس مقبولا على الأقل بالنسبة للأسر الميسورة أن تقضي شهر رمضان بنفس أفرشة وستائر و''شورات'' ومستلزمات المائدة وأطقم القهوة والحلويات التي تم استعمالها في رمضان العام الماضي، إذ يتزايد إقبال النساء على الأسواق والمساحات التجارية بشكل ملفت للانتباه 15 يوما قبل رمضان، ما يصنع فرحة واغتباط التاجر الذي يزيد جشعه في الشهر الكريم، فيضاعف أسعار مبيعاته طمعا في أموال المستضعفين والمعوزين. ولعل أهم ما يعكس روح التجديد الذي تسبق الشهر الكريم في الجزائر، مسارعَة ربات البيوت إلى تهيئة ما يمسى ب ''بيت القعاد'' التي يستقبل فيها عادة ضيوف رمضان من أفراد العائلة الكبيرة والأحباب والجيران، وعلى الرغم من أن هذه الغرف الحميمية بدأت تأخذ طريقها إلى الزوال عاما بعد آخر، لتحل محلها الصالونات الإفرنجية منذ السبعينيات، التي تفتقد للدفء الذي توفره قعدات زمان، إلا أن بعض العائلات ما تزال تتشبث بمثل هذه الغرف ولا تتأخر عن تحديث أفرشتها وستائرها وغسل ''مطارح الصوف'' التي تزينها، وتلميع التحف النحاسية الفضية والمذهبة التي عادة ما تشكل أهم جزء في ديكور بيوت القعاد المعروفة بمائدة ''السني'' النحاسية المزدانة بمختلف النقوش والأشكال الهندسية المتناهية في الدقة، والتي لا تسع على امتدادها لمختلف أطباق الحلويات التقليدية بدءا ب ''قلب اللوز'' و''القطايف'' و'' المحنشة''، مرورا ب ''الصامصة'' وانتهاء ب ''الزلابية''، التي لا تخلو منها مائدة فقير وغني على حد سواء، فضلا عن المشروبات التي يكثر تناولها في الشهر الكريم مثل الشاي الأخضر بالنعناع والشربات المصنوعة من القرفة وماء الزهر. .. وغلاء الأسعار من جهة أخرى لم يسلم زبائن محلات الأواني والأفرشة من ارتفاع أثمانها، فموجة الغلاء مستمرة على جميع الأصعدة، وإن تفاوتت درجة ارتفاعها حسب الموسم. وما لا يمكن الشك فيه استغلال احتياجات الناس ومتطلباتهم المتعددة استعداداً لرمضان المقبل، كسياسة تجارية تهدف لتحقيق الربح والفائدة لصاحبها بارتفاع الأسعار، فلم نقابل سيدة إلا وأكدت ارتفاع أسعار محلات الأواني وغلائها عن ذي قبل، وتؤكد السيدة فتيحة ''اختلفت الأسعار كثيراً، وارتفعت عن السابق، حيث كان بالإمكان شراء أشياء بقيمة 150 دينار من محلات الأواني، بينما الآن تصل أقل قيمة إلى 300 دينار كحد أدنى''. وتتابع ''قد نجد أشياء رخيصة كالبلاستيكية منها، ولكن الأواني الجميلة في مجملها غالية، وكل شيء بثمنه''. وجهة نظر أخرى تراها سهام فتقول: ''صحيح أن الأسعار الحالية غالية جداً، لكنها ليست بجديدة على محلات الأواني، ففي الفترة السابقة لاحظتها كذلك، مع فرق بسيط جداً في أسعار بعض الأشياء''. ومن جانبها تقول السيدة ليلى وهي من أكثر السيدات اهتماماً بافرشة بيت القعدة، كما أشارت لنا على سبيل المثال لا الحصر، ''كان بالإمكان شراء طقم سرير بحدود ال 1000 دينار، بينما يصل سعر الطقم العادي الآن بين 2000 و3000 أقل شيء ممكن''. وحول استفسارنا مع التجار عن هذا الأمر، ألا وهو حمى ارتفاع أسعار هذه الأخيرة، أرجع جلهم أسباب ارتفاع أسعار الأواني إلى أن بعض الشركات الموزعة كالألمانية والإيطالية وحتى الصينية تزيد الأسعار على المحلات في مواسم البيع هنا لتزيد من أرباحها، قائلين انه قد يكون الغلاء الذي لم يتقبله الناس بعد مسبقاً، ولم يطرأ عليه تغيير، مؤكدين أنهم لم يرفعوا الأسعار استعداداً لرمضان، بل أرجعوا ارتفاعها في الأساس منذ الأشهر الماضية، نتيجة غلاء المعيشة الحاصل على الجميع، ولكن الناس لم ينتبهوا لارتفاعها إلا هذه الفترة، مع بدء تحضيراتهم لشهر رمضان واحتياجهم للأواني الجديدة فيه، مضفين أنه ''يوجد إقبال كبير من الزبائن في هذه الفترة، على شراء الأواني ومستلزمات الطعام استعدادا لشهر رمضان، كما هو الحال في الأعوام السابقة، فالمرأة الجزائرية مازالت تحرص على تقديم أشهى الأطباق بأحلى حلة لزوجها وعائلتها وضيوفها ''.