العودة إلى الذّات الوطنية ومحاولة قراءة تجلياتها وانبثاقاتها على مستوى ما هو موجود وما نرومه من حركة الفاعل الاجتماعي على المستويين الثّقافي والفكري، تقودنا بالضّرورة إلى قراءة مناطق إخفاق بروز الفعالية المجتمعية القادرة على حمل عبء الرّؤية وتمثّلاتها في الواقع، ذلك المكوّن الوجودي الذي يضمن حركة النّاس ونضالهم من أجل لقمة العيش وحرّية المعيش والتّعبير عن ذلك من خلال دينامية الكلمة/المعنى. لقد أُنْتِج الخطاب الوطني انطلاقا من الوعي بمناط الفعل المجتمعي، الذي حرّكته الغيرة الوطنية على الاستلاب والانتهاك التّاريخي لمنظومة القيم القائمة في ذات الوعي على الشّخصانية والخصوصية والحرّية، وقام بذلك على دعامتين أساسيتين هما الطابع الاجتماعي للدّولة والقيادة الجماعية، كما يرى الإعلامي بشير عمري، ومن هذا المنطلق ترتّبت الرّؤية للذّات كحركة تستند إلى الوطن باعتباره مؤشر على إنتاجية مادية ومعنوية تكرّس حركة الذّات في التّاريخ، وعلى الفهم لمعنى أن تكون الذّات متحرّرة من إكراهات الهيمنة، فكانت الحركة الوطنية بتصنيفاتها العلمانية والوطنية والإسلامية تكشف عن هذا التأسيس الطّلائعي لمدخلات الوعي الوطني كما مخرجاته، وهذا بعيدا عن التّقييم الحكمي على االبدايات والمآلات، كما كان الخطاب الوطني لحظة تأسيسية انبنت على ومضة فكرية كرّست لوجود حامل في طيّاته دلالة هامشُها النص، ولعل ذاك ما حاول أن يقدّمه «جون ديجو» من خلال كتابه «الثقافة الوطنية من خلال النصوص»،أو ما أدّعي أنّني فهمته في قصديته، أي البحث عن وطنية معيّنة داخل النص، أو ما أستطيع تسميته «الوطنية الابستمولوجية»، ومنه نستطلع كل كتابات الحركة الوطنية بكافّة أطيافها والتي ساهمت فيها النّخب بحساب رؤيتها للانفكاك من عنق زجاجة المأزق الاحتلالي، فكانت الحرّية رديف للهوية، بما يعني انصهار المجموع الوطني تحت واحدية الهدف، لكن برؤى تختلف وتتشعّب بقدر تشبّع فصائل النّضال السّياسي والثوري ووفاءها لانتماءاتها الفكرية والسّياسية. يكشف الواقع الفكري الرّاهن عما يمكن تسميته بالفقر المعرفي في إمداد الحراك الوطني بالفعالية المعرفية، التي تنهل من التّجربة الشّخصية للفاعل الاجتماعي داخل المعترك الوجودي بكل تجلياته، الثقافية والمعرفية والفنية..، من حيث كونها تختزن المشكاة الدلالية التي تفجّر مناطق الأسئلة المحرجة المعلّقة على مرآة الذّات الوطنية، التي تتأسّس حاليا متحلّلة من ميراث خطاباتها المختلفة التي أصبحت تمثل اغتناء ضائعا، فالخطاب السّياسي لم يعد هاجسه خلال فترات الأزمة العودة إلى الخطاب المعرفي/الثقافي، أو التنظيري الذي يمتح من تراث مكين أسّسته جبهة الانخراط في الحالة الوطنية المكتملة داخل أبنية الشّخصانية والخصوصية والحرّية، ولم نعد نلحظ تلك النّباهات التي لا تحاول تمرير الحدث ضمن احتفالية اللحظة، بل تكريسها من خلال مرجعية المراجعة. يبدو لي أن مرجعية المراجعة تتأسّس في إطار تحريك المرجعيات المؤسّسة لهياكل الحراك الوطني المعرفي والثّقافي والفنّي والسّياسي، ذلك أنّ الخطاب المؤسّس تجلى داخل إضاءات هذه البانوراما التشكيلية للفعل الاجتماعي المؤثّث بمعالم البصمة الوطنية، فلحظة الفعل الوطني أنجزها المسرحي والسّياسي والمثقف والفرد البسيط، كما أنجزت جمالياتها الثورية مناطق التفجر الأنثوي الخالدة، هي تلك الخلطة الأسطورية التي جعلت من الذين عبروا على جسر التحرّر منارات لامعة في سماء التداول على منصّة الذاكرة. فَقَدَ الألق الفكري الوطني منصّة الذّاكرة، ذلك، إنّنا اليوم نعمل جاهدين على بتر سياقاتنا التاريخية من جذورها التي نبتت على أرضية أولئك الذي صنعوا الحدث في تمثلاته الإنسانية العميقة، ويبدو أنّ الحالة الوطنية في سقفها الفكري، تأسّست على إحداثيات القطيعة في منعرج من منعرجاتها الحاسمة، فتوسّع الشّرخ عميقا بين الخطابات التي لَحَمتها لفترةٍ جبهة التّحرير الوطني التّاريخية خلال العبور من الذّات المنكسرة إلى الذّات الفاعلة، وهو ما أدّى إلى انفكاك عرى التواتر الذاكراتي الذي يمنح الموت هويّة الحضور في الواقع كمرآة متحركة تنبعث خلالها ظلال الرّؤية عند الذين عبروا وتركوا للجذر جرسًا يرن، رنينا حميميا كما ذاك الذي انطبع في إهداء عبّاس فرحات كتابه «الاستقلال المصادر» إلى الشّباب الجزائري والشّباب المغاربي، حيث ورد في إحدى مقاطعه: «أهديكم هذا الكتاب.. حتى تضمن الثقافة والعلم ترقيتكم، دون قطع الجذور التي تصلكم بساكنة الرّيف وببيئتكم الاجتماعية. وحتى تتغذّوا بالنّزعة الإنسانية، بالشّعر، بالحب والفن».