عندماأردت الكتابة في هذا الموضوع، رجعت إلى بعض المصادر والمراجع اللغوية أولا ثم اللغوية التي تناولت نص الخطاب السياسي ثانيا. وأنا أقرأ مثلا كتاب [لغة الخطاب السياسي] للكاتب محمود عكاشة، الذي استقر بحثه على جملة من الطروحات اللغوية والتواصلية في الخطاب السياسي المكتوب والخطاب السياسي المنطوق، واستنطق العناصر الصوتية [الفونيتيكية] التي تؤثر في الخطاب المنطوق وعلى الدلالات التواصلية وبنيات الألفاظ والجمل والتراكيب، والعلاقة الموجودة بين دلالة اللفظ والتركيب، أو كما يسميها ف. دو سوسير [العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول]، والتراكيب والمصطلحات والحقول، كل هذا ليبرز لنا علاقة الخطاب بالواقع الاجتماعي، وهي العلاقة التي يحاول الخطاب السياسي أن يوظفها لتدارك الهدف. اللغة نظام للتواصل عن طريق الكلام المتفق على ألفاظه أو الرموز التي عن طريقها يمكن أن يتم التبليغ، ومن هنا تأكد عند علماء اللغة على اختلافهم أن للغة وظائف اجتماعية يقوم بها البشر الذين يستخدمونها للتعبير عن أنفسهم في الحالات التي يكونون عليها، من أقصى حالات الفرح إلى أقصى حالات الحزن. اللغة أداة تواصل، بخصوصياتها وبوظيفتها الأساسية المتمثلة في التبليغ، فالتواصل يتم بين شخص وشخص أو بين شخص ومجموعة أشخاص. تتحدد اللغة ومميزاتها انطلاقا من تحديد مستعملي الخطاب. بين الباث والمتلقي والرسالة تتم عملية التواصل، فالصورة السمعية التي يشكلها الباث تصل المتلقي الذي يشترك معه في مرجعيات موضوعية وقوالب لغوية جاهزة أحيانا وغير جاهزة أحيانا أخرى. فعبر دارة تواصلية بينهما يتم فعل التواصل، وتتطابق المرجعيات المشتركة، مثلما تتطابق في فعل القراءة، حيث يكون الحوار بين القارئ والنص، أو بالأحرى بين الخلفية المرجعية للقارئ والخلفية المرجعية للنص. فإذا كان الخطاب المنطوق هو مجموعة من التراكيب اللفظية، فهو بالتالي تلك الوسيلة المكتوبة أو المنطوقة التي تصل بين طرفين، طرف يريد التأثير وفعل التأثير وطرف يبحث على فعل التأثير. يهدف الخطاب إلى فعل الإقناع، سواء كان مكتوبا أو منطوقا.فهو ضرب من ضروب التفاعل الاجتماعي، هو جملة من الأفكار المتناسقة التي تعكس رأي هيئة ما. وهو عبارة عن وحدة لغوية خاصة أكبر شكلا من الجملة، الخطاب استراتيجية اتصالية شاملة تمتد خارج المجال اللساني الذي يخص النص. من خلال ما سبق من تعاريف تخص الوحدة اللغوية وتطورها إلى أن تصبح خطابا، فمن اللفظ إلى التركيب الجاهز، حاولنا أن نسقط هذا على الخطاب السياسي المنطوق في الجزائر، من خلال التواصل الجاري بين الهيئات السياسية التي تريد الوصول إلى البرلمان والمتلقي المتمثل في ذلك الإنسان الشعبي البسيط الذي يأتي إلى تلك التجمعات [الحزبية] مدفوعا بوسائل غالبا ما تكون عشائرية أو مصلحية. فيتم فعل التواصل عن طريق الإقناع بواسطة خطاب سياسي منطوق مجرد من أساسيات الخطاب السياسي الأكاديمي، لا من حيث اللغة التي يغلب عليها، في أغلب الأحيان، الارتجال والتذبذب بسبب جهل الباث [السياسي] للمقاييس اللغوية أولا والمقاييس التعبيرية ثانيا، وغياب الكاريزما التي تجب في من يعتلي المنصة لإلقاء الخطاب. يغلب على الخطاب السياسي المنطوق في الجزائر عامل الارتجال، وغياب المقاييس والأدوات التي يجب أن تتوفر في النص السياسي، فنسمع خلطا في تسلسل الأفكار وغياب أية منهجية مهيكلة وضابطة للنص. فيظهر الاضطراب على الباث سواء في [الحصص التلفزيونية التي وزعت بالتساوي بين الأحزان والمترشحين الأحرار] أو في القاعات والميادين التي خصصتها الدولة للغرض نفسه. أعتقد أن لعلماء الاجتماع وعلماء النفس دور مهم للنظر في اشكالية الارتباك التي تسود أغلب المتدخلين في الحملة الانتخابية، وعليهم أن يبرزوا لنا الأسباب والمسببات التي أدت بالخطاب السياسي المنطوق في الجزائر إلى هذا التردي الفظيع. فبمقارنة بسيطة بين الخطاب السياسي الجزائري في النصف الثاني من القرن الماضي والخطاب السياسي بعد العشرية السوداء نلاحظ هذا التردي من حيث الشكل ومن حيث المضمون وغياب الفاعلية في النص وغياب تام للقدرة على الإقناع. والغريب الذي يجب أن ينتبه إليه علماء الاجتماع بالخصوص هو تلك المفارقة بين الخطاب في نظام الحزب الواحد والخطاب في نظام التعدد الحزبي، والعزوف الذي أصاب الجمهور رغم [تعدد] المناهج التي تتبناها الأحزاب في الجزائر. اللغة عامل أساسي في بناء الخطاب السياسي، وفي بناء أي خطاب، ولأن مستويات اللغة عندنا في الجزائر متفرعة وتسير من المستوى الأدنى إلى مستويات متوسطة فقط، فلم تستطع أن ترتقي إلى مستويات أعلى، وبجميع التعابير من الدارج إلى الفصيح، أي من التعبير باللغة الدارجة، وهو السائد، إلى التعبير باللغة العربية الفصيحة، إلى التعبير باللغة الأمازيغية إلى التعبير باللغة الفرنسية.