ما يميز شكل قصيدة الهايكو، هو قصرها وطريقة توزيع مقاطعها: ثلاث أسطر متتالية لا يتجاوز طولها 17 مقطعا مما يجعل هذه ال»قصيدة» تقرأ في نفس واحد. أما من حيث فلسفة الكتابة فهي جزء من فلسفة الحياة التي تنتظم فنونا عدية: فن حفلات الشاي وتنسيق الزهور وفن الوجود كله. أن يكون الإنسان جزءا بسيطا من الطبيعة والعالم لا مجرد كائن فيه ولا سيدا له. أن يكون الحضور البسيط اليومي هو مصدر الرؤية الإبداعية. هناك قضايا فنية تميز كتابة الهايكو منها «التجربة» ودورها في الكتابة الشعرية واقتصاد اللغة الشعرية، أي شعرية الحد الأدنى من اللغة في القصيدة، و قوة الهشاشة ولغة انكسار الوجود وآنية الحضور، وتجليات الأبدي في ما هو آني عابر؛ فهذه الأفكار تمثل مبادئ أولية في كتابة أقصر قصيدة مكتملة في آداب العالم. تقوم التجربة الشعرية في الهايكو على اكتشاف ما يعتمل في الذات في علاقتها بالكون واستبصار اللحظة الفاصلة التي يلتقي فيها الكوني بالذاتي والأبدي بالآني والمجرد بالملموس والوعي بالطبيعة. تلك لحظة الهايكو. لحظة بسيطة عارية خالية من التقعر والوصف والتكلف اللغوي الفضفاض، لحظة الوعي الحاد بالعلاقة بين الذات والعالم من خلال تجلياته في الطبيعة. جمالية المباشر والحاضر والآني الغني ببساطته العميقة. «فالهايكو هو ما يحدث هنا والآن» حسبما أجاب باشو أستاذه الفيلسوف الذي لم يكن يرى فائدة من إضاعة الوقت في هذه الكتابة التي كانت يوما ما شكلا من أشكال تزجية أوقات الفراغ لدى فئة النبلاء في اليابان. تأسس الهايكو على قيم جمالية كونية بسيطة ترفض البلاغة التقليدية القائمة عل التشبية والاستعارة والكناية وأنسنة الطبيعة والمحسنات البديعية. أي أنه باختصار يرفض كل قواعد الكتابة الشعرية العربية التقليدية. وبما أن عالم الهايكو ذهب بعيدا في كونيته ولم يبق معزولا في الجزيرة الصخرية، وأحسن أهله الاستفادة من تكنولوجيا الإعلام الحديثة فقد انتشرت قصائد الهايكو ونواديه ومجلاته في أصقاع العالم ولغاته وآدابه الشرقية منها والغربية ولم يعد حكرا على اللغة اليابانية. كان صيف 2003 غنيا جدا بالنسبة لي شخصيا. بعد تجربة كثيفة في الكتابة وترجمة الشعر انهمكت في منعطف شخصي حاد ولكنه بسيط يمكن التعبير عنه كما يلي: انتقال محور دوران العالم فجأة من أفق الصحراء إلى أفق البحر. وكان ذلك بمثابة امتحان عسير في الكتابة: كيف تخرج بالكتابة من جماليات القحط والفقد والمنع والحجب والحرمان والتوق أي نموذج الكمال الغائب إلى عالم الماء والوفرة والألوان والحركات والانغماس الكلي الآني في العالم الحاضر الماثل بكل بساطة عبر الحواس والفكر والانتباه البسيط؟ كيف تكون جزء من العالم لا خارجه ولا غريبا فيه ولا محروما منه ولا ممنوعا من شيء أو تواقا إلى شيء؟ وبعبارة بسيطة كيف تكون جزء من الطبيعة لا كائنا موجودا فيها فقط؟ ذلك هو السؤال الذي قادني إلى خوض تجربة جديدة في الكتابة: هنا والآن الآن أرتمي في الزرقة لا أدري أي النجوم ستغطي أثري