تراه ذلك الصبيّ المغيليّ ليلا، وأغلب الظن أنه كان في ذلك الوقت الصيفي الهادئ بين المغرب والعشاء، على سطح بيتهم الطيني بالقصبة، يلهو قرب أمه لالّة شريفة، وجارتها الحميمة أمّالالّة قُريشة، فيتناهى إلى طبل سمعه الرّخو من جهة الغرب، حيث قصر بوعلي المجاور، نغمات شجية تختلط بأصوات القارئين للحزب فوق سطوح الجوامع، كانت تأتيه تلك الأصوات، مختلفة عمّا كان يبلغ أذنه من أصوات ألِفها في بيئته المحصورة من البيت أوالقصبة، ليتعرّف لاحقا عندما سار على رجليه، وأخترق فم القصبة، أنه صوت زمّار بوعلي، ولربما بدأت معرفته شبه الواعية، بزمّار بوعلي بعد هذا، عندما كان في الرابعة من عمره، فيرى فرقة تحدث فرجة غريبة ببيتهم، عبر طوافها بمنازل القصر، في دوريتها المشهورة ب(لَغْرامة)، والتي كانت على مرتين في السنة، فتعمر هذه الأخيرة منزلهم، بأنغام حلوة، محدثة فيه بلبلبة داخلية عميقة، يتحسّسها ولا يعلمها، تطول قدماه مع مرور الأيام، ليتصادف مع زمّار بوعلي، عند نوبة ضريح جدّه الشيخ المغيلي، خلال عبوره لأقربيش(الكُتّاب)، من هذا وذاك تشكلّت عندي تلك الصورة الناضجة عن زمّار بوعلي، وبما كانتتثيره هذه الفرقة، من فرجة عارمة بأرجاء قصرنا المغيليّ المجاور لقصر بوعلي. كرّس زمّار بوعلي طقوسية النوبة، التي خصّ بها الشيخ المغيلي، مراعيا في ذلك حميمية الجوار، وقد دأب على ذلك في كل مرورياته بضريح الشيخ المغيلي، فقديما عندما كان الناس يذهبون على حميرهم لأسبوع المولد النبوي الشريف بزاوية كنتة، رسّم زمار بوعلي وقفة ب(أغْزولوضْ)، يأتي فيها بنوبة الشيخ، تبرّكا وتوسّلا به، كما اعتاد زمّار بوعلي، في صعوده لقصر زاوية الشيخ، سواء في نوبة لغرامة، أو طقوس (تَلْباسْ لَعْلامْ) في المولد النبوي الشريف، أو غيرها من مناسبات الفرحة والفرجة بقصرنا، أن يختار الطريق الشمالي، المنطلق من فم لقصر التحتاني ببوعلي، المار على أغزولوض، فيصعد المكان المسمّى ب(الصبيان) جنب المقبرة، حتى يأتي ضريح الشيخ المغيلي، وقد تلمس وبجلاء، تجليات المسحة الصوفية، المرتسمة على وجه أبّابوجمعةرحمه الله، في ذلك الموقف الصافي، وهو يقف أمام عتبة الشيخ، بادئا تنغيمته الشجية المعروفة للنوبة، يتبعه في ذلك بالإيقاع الحاج بوجمعة أبّابريك وصنوه أمبارك رحمه الله، وأبّاملوك وغيرهم من أعضاء الفرقة.. ومما يُنشد في طقوس النوبة عند عتبة الشيخ (سيدي بوعمامة.. أيقوي حَرْمو..)، (يا العظيم موجود..)، (أحْنا جينا أمْسَلْمين لرجال العتبة..)، وتتوالى طقوس النوبة كذلك، في المولد النبوي الشريف، لاسيما في طقوس (تلباس لعلام)، كما تقع النوبة أيضا، في الدورية السنوية المشهورة بالغرامة، فضلا على أن طقوس النوبة للشيخ المغيلي، تكون في أي مناسبة تقع بالقصر المجاور، ويكون زمّار بوعلي معنيا، إلا ويمرّ من طريقه المعهود عبر أغزولوض، ويقدّم طقوس نوبته للشيخ المذكور. ومن حميمية الجوار كذلك، نوبة الزهراء العَصْمانية رحمها الله،وهي امرأة استثنائية، ذات شخصية أسطورية، ظهرت في حفيدات الشيخ، اشتُهر عنها، وعُرف عن أخيها سالم العَصْماني، حبّهما الجنوني للزمّار والغيوان، وما يأتي من نفخ نقط المزمار وطبل جلد أقلال.. هاما وتاها فيه حد الجنون.. حتى أنفقا وأغدقا من مالهما وما يملكا، من أجل إشباع قلبهما العطشان، من هذا الذي يُدعى زهو الغيوان.. لقد أدركتُ في صغري، الزهراء العصمانية، تسكن زقاق (أمَازَرْ)، أتمثّلها أمام ناظري الآن، امرأة مسنة، قمحية اللّون، رقيقة البنية، لاهي بالطويلة ولا بالقصيرة، قُل هي شيء بين ذلك.. غيوانية، زهوانية حد الأفتتان والهيام.. وقد بدأت إرهاصات نوبتها، من طقوس دورية لغرامة لزمّار بوعلي بقصر زاوية الشيخ، فلكونها مغرمة بالزمّار، سعت عند مرور الوفد البوعلاويببيتها، أن تخصّهم بالضّحوي من خبز التنور مع الشاي، كامتياز ظاهر، بين بيوتات القصر، ليفرد لها زمّار بوعلي، وعلى رأسه المايسترو أبّابوجمعة نوبتها المخصوصة ببيتها في كل عام، حيث يمكث الزمّار ببيتها، أكثر من البيوت الأخرى، حتى عدنا ونحن في زمن الصبا، والأمر ينسحب على نسوة القصر كذلك، ننتظر بتلهف، دخول زمّار بوعلي لبيت العصمانية، بحكم طقوس الفضلة الزائدة، التي خصّ بها العصمانية، وظلت طقوس نوبة العصمانية، حتى نهاية حياتها، ولما توفت الغيوانية عليها رحمة الله، انقطع زمّار بوعلي عن طقوس نوبة العصمانية، فتتناقل المرويات بقصرنا، أن العصمانية أتت أبّابوجمعة في المنام، تشدو بزمّارتها، وقالت له: هذه الزمّارة أحسن من زمّارتك يا أبّابوجمعة.. ومنذ ذلك اليوم، رسّم لها زمّار بوعلي نوبتها بعد الممات كما في الحياة، فحيث ما مرّ على ضريح الشيخ المغيلي وخصّه بنوبته، أفرد لحفيدته الزهراء العصمانية، أمام قبرها نوبتها هي الأخرى، ولازال الأمر كذلك إلى يوم الناس هذا.