ارتجفتْ غجريةُ الكفِ حين حدقت بماضيهِ ، ما وجدَ ميلود للذّكرى التي تطارده حتّى اللحظة مُسكن . أربعون سنة وهو يأخذ الحياةَ مأخذ المكابرةِ ، ذلك الوجع المكدس بداخله يهيئ بين الفينة و الأخرى لسكينة البوحِ . بندقيةُ الصيد التقليدية بالحجرةِ المظلمةِ بقبو البيت القديم ، كلمّا حدقَ بها تكهربت عضلات مأساته . أشياء حدثت ما استطاعتْ ذاكرة والده الحاج حمة المشارفة على التسعين نسيانها تأتي نبرته السّاخرة : إيه يا دنيا لا أمان فيكِ ؟. يرد ميلود وهو يطمئِنه : حدث ذلك منذ زمن طويل ، يشارف عمرك على النسيان وتزداد تذكرا وحسرة . ذاك القلب ما عدت تجدُ في نبضاتهِ متسعا للألمِ ، تفرس بملامحه برهة وقال : أمّك أمّ الخير ، تركتك وعمرك ستة أشهر ، منحتك الحياة صك اليتم باكرا يا ميلود كتم أنفاسه حينها لا يدري إن كان يستتر بأوجاعه أم يفصحها لوالده . ذاك الألم الذي تجاوز حدّ الشبهة ، ثلاث طلقات كانت كافية لتعلن قريتنا الصغيرة الحداد ...استطرد الحاج حمة ... : رفع ابن عمك مروان تلك البندقية ونوبة من الفرح الجنوني الطفولي تجتاحه فهو في سن الثانية عشر .صمت الحاج حمة برهة وترك حواسه تجهش بالألم .. ثم أردف : ضغط على الزناد فانطلقت بلمح البصر ثلاث رصاصات لتستقر ببطنها و الرّابعة تصيبك في أسفل قدمك ، ندبتها ما تزال بادية . صمت حينها أكثر كمن يصعد ربوة تمكنه من استطلاع صوت مرحها وتنكيتها بين نسوة القرية وهي أجملهن بسمرتها الخفيفة ...تكتمل طلة البدر على محياها لتحاكي ليالي السمر المقمرة ..... أدخل ميلود يده في جيبه ووضع بعض الدّراهم في كفّ الغجرية ، تبدت الدّهشة بملامح صمتها فما باح لها به كبل حواسها ..وانصرف.