نشر الأكاديمي والكاتب والمترجم المغربي الميلودي شغموم (1947) هذه المجموعة القصصية في مطلع الثمانينيات بدمشق، منشورات اتحاد الكتاب (1981)، للعلم فقد تمّ تكريمه لاحقا في مدينة سطيف ( الجزائر)، تثمينا لجهوده السردية والنقدية والترجمية كقلم له مؤهلات معتبرة في شتى الحقول الأدبية التي تعامل معها بتفوق. كنت مبرمجا آنذاك لتقديم مداخلة، وفكرت في "سفر الطاعة"، أول كتاب قرأته له بنوع من الإعجاب الكبير بعوالمه التي لم أجدها في كتابات أخرى، ومنها كتاباته الشخصية التي جاءت لاحقا، القصصية منها والروائية، رغم قيمتها، من تموقعات أخرى. أعتبر الاكتشاف مصادفة باذخة، وحظا كبيرا. كانت مكتبة الحزب بالعاصمة تستورد عناوين متنوعة لكتّاب عرب وغربيين مختلفين، دون أي اعتبار لمللهم ونحلهم، قبل أن تتحوّل إلى مقهى، كأغلب المكتبات الأخرى التي رأت أن القراءة مجرد ترف ذهني عابث، أي لا قيمة لها من الناحية النفعية التي فرضتها السياقات الجديدة التي أسست على منظورات مختلفة للعقل والحضارة. سعدت كثيرا بهذه المجموعة المكونة من سبع قصص متوسطة الحجم:....... ولعل أكثرها إثارة تلك التي اختارها عنوانا لكتابه، مع أنّ النصوص الأخرى نبيهة جدا وعميقة، وذات مستوى راق بحاجة إلى قراءات مركبة، وقد يعود ذلك إلى التكوين الفلسفي للمبدع، كأكاديمي ألّف كتبا متخصصة في هذا الحقل، ومنها: المعاصرة والمواطنة، الوحدة والتعدد في الفكر العلمي. قرأت المجموعة القصصية عدة مرّات لأحتفي بها بطريقتي، كما أفعل عادة مع الكتب القريبة من ذائقتي وميولي الأدبية والجمالية. لقد كان لها طعم خاص، ووقع استثنائي. وجدت فيها عوالم تشيكوف وزكريا تامر وجورج أورويل وبرنارد شو وكافكا وبيرانديللو وكامو، ما يشبه مزيجا من المجاورات والتماسات المستقلة التي لها شخصيتها وقوانينها السردية وخياراتها الفكرية، ذلك لأنها نتاج جهد له هويته ومرجعياته، كما تعكس ذلك مختلف القصص التي تحتاج إلى قراءات. من الصعب أن نحصر هذه الكتابة في مدرسة أدبية ما لأنها منزلقة، توفيقية ومنفتحة على رؤى وتيارات متباينة، منسجمة ومتضاضة. لقد مزجت بين توجهات مركبة، ومن ثمّ اكتسابها بعدا ثقافيا مؤثثا، إحالة ورؤية. ما منح القصص قوة تأثيرية خاصة، بصرف النظر عن الأخيلة والجملة السردية التي اتكأت على الوضوح، من حيث التجلي، وليس من جانب الدلالة والمقاصد. كتبت أغلب النصوص بلغة حاكية، مستغنية عن التعقيدات المعجمية والتصويرية، مانحة بذلك الأولوية للفكرة، على حساب التنميق. إنها أشبه بالحكايات الشعبية، بترقية واضحة للاستثمار، وكان حضور الكاتب لافتا كطاقة سردية أسست على التفصيل، مازجة السريالية بالسخرية بالحكمة بالعبثية بالمأساة، وبواقعية نبيهة، رغم تمظهرات الحكاية كأخيلة فصلية، ليست ذات علاقة كبيرة بالمحيط الخارجي المنتج لها، كمواد جزئية تجلّت في أخيلة تحيل على الواقع، واقع ما، دون تحديدات قبلية. إنه واقع الإنسان المنهك في العالم. ذلك ما تعكسه الشخصيات، بنوع من السذاجة الوظيفية التي بدت حتمية، كما في أجواء تشيخوف البسيطة، كانت بعض شخصياته ساذجة بشكل ذكيّ، وذاك ما جعلها أكثر حضورا وقوة. ورد في سفر الطاعة، على سبيل التمثيل، قوله:« إن كلّ أملي أن أدخل تحت طاعتك (...)، وأن أصير عبدا أو واحدا من رعيتك" أطفأ كلّ منهما سيجارته في إحدى عينيّ هل رأيت يا سيدي كم أنا صبور؟ أرجو أن يكون هذا كافيا لإدخالي ضمن رعيتك". تواترت مثل هذه المقاطع في عدّة سياقات، وهي توليف ما بين السخرية والمأساة، وبشكل حيادي، سردا وحوارا، بحيث تبدو الشخصيات مجموعة من الكائنات البلهاء التي لا رأي لها، إن نحن أسسنا على التجليات اللفظية والجملية، في حين أنها تمرّر، في واقع الأمر، خطابات ذات مقاصد عميقة، كما لو أنها تمرّر ظاهرا مناقضا للجوهر، أو مدحا بصيغة الذم، بتعبير البلاغيين. هذه المعاودات الصيغية هي التي تتحكم في منطق السرد والحوار والمناجاة، وهي تندرج، من الناحية السيميائية، بالعودة إلى المربع العلامي، في خانة الكمون اللاظاهر، ما يجعلها أكثر انفتاحا على الممكنات التأويلية. بيد أنّ ذلك لا يكفي للتدليل على قيمتها الدلالية والفنية، دون الاحتكام إلى مجموع المفارقات التي تربط الحالة بالفعل، والفعل بالحالة، والعلة بالمعلول، وهكذا. ثمّة بناء غير منطقي لهذه العلاقات السببية المفترضة، أو المتوقعة من قبل القارئ، لذلك يخيب أفق الانتظار، وهذا ما يمنح النص قوة إضافية. كما تلعب السريالية والسخرية دورا مهمّا في ترقية الدلالة، حتى في لحظات هيمنة المنظورات والملفوظات اللاعقلانية التي تبدو مثيرة، وغير متوقعة، كما ورد في الطريق إلى روما:« رميت البردعة على ظهر الحمار وقلت له: كن صاروخا، فكان...فكان الجنون بالعلم، ألم الرأس، قلة الهواء، ثلاثة أشياء ...كافية لمغادرة الأرض". ثم تبدأ الرحلة السحرية إلى الكوكب، بانكسار وبلا جدوى. أجد أن هذا النوع من الربط بين العلل والمعلولات، بنوع من الميل إلى السخرية والعبث، أمر وسم المحكيات ومنحها قيمة إضافية، أكثر من قدرات الواقعية التي تبني على المنطق. هذا النوع أقلّ وقارا وعقلانية، لكنه، في نهاية الأمر، ينتهي بعلانية وظيفية، ومؤثرة، وأكثر دلالة على المحيط المتشظي، العابث بدوره، رغم أنه لا يبدو كذلك من ناحية الخطاب المنضبط، على الأقل في تجليه. مجموعة قصصية لم تفقد أبّهتها بعد مرور ست وثلاثين سنة من تاريخ صدورها، ما يعني أنها أثبتت وجودها. نشير إلى أن الميلودي شغموم نشر لاحقا عدة روايات، ومنها: مسالك الزيتون، الأبله والمنسية والياسمين، خميل المضاجع، إلخ. لكنّها لم تمح هذه المجموعة القصصية. لقد كانت قوية ومقنعة.