لم يكبر الطفل بعد لا في عيونه ولا في قلبه ولا في حركاته، حتى في كلامه الناضج والمسؤول لم يكبر الطفل أبدا. في كل لحظة ومنذ أن باشرنا العمل الوثائقي عن سيدة المكان يمينة إيشايب " زوليخة أوداي" كان معنا خطوة خطوة يدلنا على الأمكنة الحميمة، ينبهنا بدقة المهندس العارف والمتمكن لكل التفاصيل ودقائقها، لم يغفل عن أي شيء. كانت شهادته والمعلومات التي في قلبه وذاكرته متممة لما بدأناه من عمل وتحريات. أحس نفسه؛ وهذا حقه طبعا؛ هو المعني الأول والأخير بمن غادرته قبل أن يشبع منها ويتشبث أكثر وأكثر بأهداب أحلامها وطموحاتها وعنادها وتحديها وجرأتها، غادرته قبل أن يلعب معها الغميضة ويدنس بين طيات فساتينها وحايكها أو في صندوقها السحري المتخفي عن العيون والذي كانت تسكنه ذكرياتها وما لم يتحقق بعد من أحلامها. كلمنا كثيرا عن أخته خديجة ذات الثلاث عشرة سنة والتي تعلمت كيف تستعمل الحايك حتى وإن تعثرت فيه مرارا متخفية عن أنظار المستعمر والجيران، لأنها كانت واحدة من بين حلقات الوصل بين الأم المجاهدة ومن كانت تريد التواصل معهم من أجل التنظيم، وكيف كانت بهذا الحايك تذهب لرؤية أمها لما تتوفر الفرصة سواء في المدينة أو الأماكن القصية. يصمت قليلا ثم يقول جملته الحارقة التي كررها أكثر من مرة "ليتها أخذتني معها إلى الجبل ومت معها". أدهشني وأحزنني كثيرا ما كان يغلي في داخله وهو يداريه ويخفيه مرات، ومرات يفضحه بدمعة هاربة، يدير رأسه إلى قمة الجبل يمسحها ويعود إلينا كأن شيئا لم يكن، كان كمن يبحث عن طيف، عن ظل يخبئه ويهرب به بعيدا، لأنه له وحده ولن يتقاسمه مع أحد، ولن يشرك فيه أي أحد. كان مثل طفل اكتشف شيئا غريبا ومدهشا يعمل جاهدا على إخفائه عن الأنظار ليستمتع به وحده لحظة الغفلة، هو له، له وحده وكفى. كان كمن يحاول شد غيمة خوف أن يتقطع حبلها السري وتتهاوى. في صدره كانت تتراقص فراشات حالت ألوان أجنحتها، أحسسته زلزالا يحرك الأرض والتربة بنبضه من تحت قلوبنا. هو الطفل، آخر العنقود "عمي عبد الحميد" لم يكن عمره إلا خمس سنوات لما أصبح الجبل والسرية التامة مأوى ومسكن المجاهدين " الحاج العربي أوداي " و " يمينة إيشايب زوليخة أوداي" الأب والأم دفعة واحدة. غادرت زوليخة أمكنتها المعتادة التي كانت ترتادها بثقة وثبات وكأن الخوف لا يعرف مسلكا إلى روحها وقلبها، لتسكن المجهول المعلوم في كل الأمكنة المتاحة أو التي أنبتتها مثل الفطر مع رفاقها والتي من خلالها أصبحت مثل الطيف، الطيف الذي حير المستعمر وزعزع استقراره في منطقة شرشال بأكملها. لم يمنعها المستعمر بكل ترسانته من أن تأتي سرا وبطرق مختلفة وبوسائل التخفي التي اختلقتها لرؤية أبنائها وضمهم إلى صدر لم يشبع لا من عطرهم و لا من أنفاسهم المختنقة والمحقونة، ولا هم شبعوا. سكن الخواء ذاتها وذاتهم. عمي عبد الحميد، لمست دعمك الدفين المشحون مثل الزجاج يتكسر داخل عينيك شظايا حارقة، لمست ذلك الحزن الغائر الذي بقي طفلا ينتظر من يربت على كتفه ويلمس شعره بحنان. ينتظر من يفتح قلبه فجوة فجوة حتى يتسلل منه ذلك الماضي المرير ويرمم ما يمكن ترميمه ويجمع الجسد المشتت على مرأى من السماء ويسكنه أعمق الأعماق حتى لا يخطف ويغتصب من جديد. كنت أقرأ ملامحك المتحولة لحظة لحظة وأنت تنظر إلي وأنا أجمع بعض الحصيات وأزيح بعض النباتات البرية وألمس التربة، أذريها وأجمعها حفنة حفنة بين كفي كأنني أحاول صياغتها وتشكيلها من جديد خلية خلية، وأطرحها بحنان خوف جرحها، وأنت تصرخ في أعمق أعماقك صراخك الصامت والدفين "ربما فيها ذرات من جسد أمي، دمها الساخن بقايا شعرها الجميل، انينها الحارق لحظة التعذيب، شوقها لي، حليبها الفوار الذي لم أشبع منه" أنا أيضا متأكدة أن في تلك التربة شيء منها، أحسست دمها في عروقي، سمعت أصواتا في داخلي يتردد صداها بقوة وعنف في كل الجبال والوديان المحيطة بي " احكي يا واد عيفر احكي" أنت الشاهد الأكبر على الجريمة بكل تفاصيلها، أنت وحدك تعرف كم عانقت من جسد شهيد وكم من دم روى عطش تربتك وكم من صرخة مكتومة لم يسمع صداها انطفأت بين جنباتك. وأنت هنا عمي عبد الحميد في حضرة الغائبين الحاضرين دوما كأنني بك تقول ما قاله أبو العلاء المعري "خفف الوطء، ما أظن أديم الأرض،إلا من هذه الأجساد"