طقوسي مع الكتابة مُلْغِزة حد الغرابة، أحيانا أدعو هذه الملعونة، بكل ما أوتيتُ من أنواع الدَلاَل، فأضع لها أحمر الشفاه، وربما رحتُ أفتّش في أغراض زوجي، عن أشهى العطور الاصطناعية الباذخة؛ بل ولربما ذهبتُ لأبعد من هذا، فتركتُ الحداثة وتعشّقتُ بالتراث، كأن استعين ببخّار أمي التقليدي المزخرف، المصنوع من طين بودة المحلي، ووضعتُ فيه قليلا من الجاوي، علّني أفوز بلحظة صافية، تأتيني فيها نشوة الكتابة؛ لكن مع كل هذا البلاء في التكلّف، لتهييج شهوة الكتابة وشبقها؛ فتتمنّع عليّ مع الأسف سامحها الله.. وبالمقابل هناك حالات، قد أكون فيها غير مبالٍ بأدنى الأشياء، فأصرف عنها وجهي، وأوليها ظهري، وبالرغم من هذا الزعم في عدم الاكتراث، أجدها تتراقص لي، كغانية ربطتْ حزام منتصفها، ووقفت أمامي تهزّ كل ما فاض من هضاب جغرافيا جسدها، حتى تلك الطقوس المفبركة، التي اعتادتْ هذه المحبرة، أن تستأنس بها، وتوهمني بضرورة إحضارها؛ كبعض الأنواع المخصوصة من الأقلام والأوراق والأوقات، لا تراعيها. يمكن اعتبار رحيل الصديق العزيز سعيد مكاوي، وما أحدثه فيّ من خراب مؤخرا، يجانب هذا التصريف الأخير في قصتي مع الكتابة، وإلحاحها الشديد، عساني أفرّغ أحزاني وأشجاني. لقد وجدتني منذ أيام، أعاني دقّ مسمار التذكّر في نوستالجيا ذاكرتي الرّخوة والمتعبة، في الحقيقة صدمتي كانت قوية جدا، عندما نعيّ إليّ نبأ وفاته المباغت، على صفحة الصديق العزيز الروائي وحيد الطويلة، كنتُ ساعتها مسافرا وغريبا عن الديار، أحسستُ بداية بشيء يشبه الدوار، لم استسغ الخبر أول الأمر، قطّبتُ أهداب عيني ثانية، وعاودت قراءة المنشور برَوِيّة، وإن كنتُ بداية أعلم يقينا، أن الصديق وحيد الطويلة، مصدر موثوق، بحكم ارتباطه بمقهى زهرة البستان، ومعرفته بروادها، غير أن ذلك الوقت الذي أخذته في رمش العيون، وما أعقبه من معاودة القراءة بالتقطير، إنما كان في الحقيقة، لمحاولة تخفيف رزيئة الموت المفاجئ، وتمرير هذا الشلال من التعاسة بالتقسيط، في غمرة هذا المشهد المبلبل، الذي انغمستُ فيه، التفتَ إليّ رفيق السفرة والعمر، الدكتور عبدالله كروم في دهشة، كأشد ما يراني في حالات الخطب النازل، أخبرته بالمصاب، فذّكرني بما رويته له، عن ملاقاتي بسعيد مكاوي، خلال زيارتي للقاهرة قبل سنتين. تعود معرفتي بالراحل مكاوي، لأكثر من سنتين، فقد سبقت ملاقاتنا الواقعية بزهرة البستان، ووسط البلد؛ معرفة افتراضية عن طريق الفيسبوك؛ غير أن متانة هذه العلاقة الصافية، ترجع بالأساس لعشية يوم 10/02/2016 بمقهى زهرة البستان، حيث تواصلنا بالمسنجر مسبقا، وحددنا الموعد، فبعد رجوعي من معرض الكتاب بالقاهرة، قصدتُ زهرة البستان، في تلك العشية شبه الباردة، لم احتاج لدليل أو سؤال لمعرفته بين الجالسين، كما هي الحال بالنسبة إليه، كانت طلعة سحناتنا السمراء، تشي بالمقصود، التقت أعيننا من بعيد، رسمَ ابتسامة خفيفة وديعة على محياه، تقدّمتُ نحو طاولته الرابضة على الرصيف، قرب بوابة أحد الأكشاش، وقف مولانا مكاوي في وقار، وتعانقنا بحرارة، قدّمني لجلسائه، أذكر منهم الكاتبة الوديعة نهلة كرم، والكاتب الإعلامي بالأهرام أسامة الرحيمي، وآخر فاتني تذكّر اسمه والله.. المهم قضينا وقتا طويلا ورائقا في حديث الأدب والفن، حتى أرخى الليل سدوله بعد المغرب، فاستأذننا جلالته ليوصل ابنته نهلة لسكة القطار، هذه البنت اللطيفة، التي ظهر لي من خلال جلستنا معا، في حضرة مكاوي، أنها تتمثّل فيه الأبوّة الروحية، التي يبتغيها السالك والمريد من الشيخ، في عُرف ساداتنا الصوفية، والحق يذكر أني عندما غرقتُ في نهر البكاء، بعد معرفتي بفقد مكاوي، تذكّرت هذه المسكينة، وما سيحدثه رحيل العم سعيد، من فراغ في كيانها ووجودها، لكني أخيرا أوكلتُ أمري وأمرها وأمر محبيه لله.. المهم مكثتُ برفقة الصديق أسامة الرحيمي ننتظر عودة ميكي، دردشنا في أمور الثقافة الإفريقية، فقد كان هذا الأخير مهتما جدا بالثقافة الزنجية، حيث أبلغني أنه يشرف على صفحة بالأهرام، تختصّ بثقافة جنوب الصحراء، وهو أمر أغرانا في تشعّب الحديث، بعدها رجع الرفيق مكاوي، وبقينا مدّة، افترقنا على أمل اللّقاء في اليوم الموالي، بحيث أبلغته أني اقتنيت من المعرض روايته الجديدة (أن تحبك جيهان)، فوعدني بأن يهديني روايته التي قبلها (تغريدة البجعة)، كما أبلغته كذلك من تمكينه بروايتي الجديدة (كاماراد)، التي كان متحمّسا لها، من فرط موضوعها المثير على حد قوله. تعدّدت لقاءتنا بزهرة البستان، وتبادلنا إهداءات كتبنا، ورسم حروفنا وعباراتها الحميمية عليها، فتقرّبتُ من نفسه الطيبة، كان يغلب على صاحبنا الاستماع أكثر من الحديث، شخص هادئ، كلامه خافت، شديد التحدّث والمفاكهة باللهجة القاهرية، لا يزعم ولا يدّعي.. تفوح منه طيبة منبت أهل الجنوب وسماحتهم، بدا لي مكاوي، عرّاب وسط البلد، وشيخها الذي ورث الأوراد بلا عناء، ويورّثها بلا شقاء، هكذا تصورته على الأقل.. كان شيخا جليلا حقا، يتحلّق حوله المريدون دائما، كأنهم يرون فيه قدّيس الكتابة، يبتغون إليه الوسيلة فيها، لاسيما من هم في بداية الطريق، كانوا يرون فيه تنسّكا بعبادة الكتابة ورهبتها، لذلك وثقوا به، وأسرّوا إليه بأحلامهم وطموحاتهم. ليس سهلا أن ينتزع الكاتب، كل هذه المحبة والثقة في وسط الكتّاب، حدّثني كثيرا في آخر جلسة معه، عن كتابه مقتنيات وسط البلد، وسبب ارتباطه بفضاءات القاهرة، ومحاولة التقاط الأشياء البسيطة، من يوميات الهامش بها. على أية حال، فإن رحيلك يا مكاوي، أعطى وسط البلد، بعدا آخر، غير ذلك البعد الفيزيقي، الذي حدّثتنا عنه في مقتنيات وسط البلد الورقي، وأبدعتَ في تفاصيل شخصياته وفضاءاته وأمكنته، لقد أصبحتَ يا ميكي؛ وسط البلد الآدمي، الذي رحل عنا، وبقيت أصداء روحه الطاهرة، في شوارعه، وحاراته، وساحاته، ومقاهيه، ودراويشه، الرحمة لروحك أيها النّاسك في محراب الكتابة.