لا تصحو القاهرة أبدا.. ببساطة لأنها مدينة لا تنام. تدب الحركة في شوارعها، حاراتها المكتظة في كل وقت، وتستمر حركة السيارات والمواصلات، وكذا المنحلات تبقى مفتوحة لاسيما الكطاعم والمقاهي أمان زبائن عابرين ودائمين على اختلاف جنسياتهم. مدينة تخشى أن تطبق جفنيها وكأنها تخاف لو فعلت ألا تصحو أبدا.. مدينة لا توصد ابوابها، رغم حالة التوجس التي تشعر بها في وجوه الناس أهاليها خاصة- وفي أحاديثهم الملتحفة بالنكت الكئيبة بسبب الوضع الأمني والسياسي المؤقت. حطت طائرة الخطوط الجزائرية مطار القاهرة القديم حوالي الثانية زوالا، لكن إجراءات الخروج من المطار استمرت لساعتين إضافيتين، فبمجرد وصول المسافرين من منافذ التحقق من وثائق السفر حتى أحيل بعضهم إلى التحقيق الأمني، لسوء الحظ كان معظمهم ممن يحمل الجواز الجزائري. إجراءات استنكرناها بسبب في حينها على اعتبار أنه كان يفترض أن التأشيرات لم تمنح لنا إلا بعد التحقيق الأمني المسبق بحسب ما أخبرتنا به السفارة المصرية في الجزائر مبررة تأخرها في تسليم التأشيرات. في النهاية انصرفنا ونحن ندرك وطأة الحمل على عاتق أمن بلد يترصد به الإرهاب ويحاصره هاجس اللا أمن. في سيارة الأجرة التي فضلت استئجارها من خارج المطار عملا بنصيحة صديقي الروائي المصري أحمد مجدي همام الذي كان أول المتصلين بي عند وصولي. بدأت أدخل أجواء القاهرة بمجرد صعودي إلى سيارة الأجرة. السائق ذو الستين عاما أو يزيد، لم يترك شارعا أو معلما قاهريا إلا وسماه لي. متحدث بارع ككل المصريين في الحقيقة. كانت لديه حكاية مرتبطة بكل مكان نمر به، وكل حكاية تنتهي بفكاهة قلما نلمسها في سائقينا. يشعرك بثقافته بمدينته.. مدينته، لأنه قاهري الأصول. 26 يوليو ومقهى الأمريكين.. لم أحتج للسؤال عن الفندق الذي سبق لمجدي همام أن حجز لي فيه. كنت قد سألته قبل سفري أن يحجز لي في فندق أشم منه رائحة القاهرة. لم يخيب ظني، فالفندق يقع في وسط البلد، في عمارة عتيقة بالجادة 13 من شارع 26 يوليو، وهي عمارة بها ثلاثة فنادق، يقع فندقي سيتي بلازا في طابقها السادس. الحقيقة لم أر مكانا يعج بالفنادق مثل القاهرة. أينما تولي وجهك تجد فندقا يلائم ميزانيتك. هكذا لن تعوز الحيلة السائح -حتى الغر- ليجد له مكانا يقيم فيه أيام إقامته في القاهرة. إلا أن الروائي أحمد مجدي همام أراد لي مكانا »معلما«، فقد حجز لي في فندق لا يمكن أن أتيه عنه، فقد كان بجوار »مطعم جاد« الشهير وعلى الطريق المؤدية إلى »دار القضاء« وليس بعيدا عنه يقع »مقهى أمريكين« الذي كان الفنان المرحوم أحمد زكي زبونا دائما فيه. ومقهى الأمريكين، هو البديل الشعبي لمقهى »غروبي« الذي كان قبلة فناني السينما المصرية على غرار فاتن حمامة ونادية لطفي وهند رستم وعمر الشريف وأحمد رمزي. فقد افتتح أول مقهى أمريكين عام ,1930 خصيصا للطبقة المتوسطة. علمت لاحقا أن ثمة تقاليد عريقة تربط المصريين بالمقاهي. تلاحظ ذلك من خلال ما تشاهد من عائلات وعشاق ومثقفين يتواعدون كلهم في المقاهي المغلقة والمفتوحة. تلاحظ ذلك من خلال استقرار بعض المقاهي بالاسم ونوعية الزبائن التي ترتادها. بعض المقاهي تساهم بجد في الحركة الثقافية والأدبية في مصر، وهي في معظمها تقع في وسط البلد على غرار »التكعيبة«، »زهرة البستان«، »عم صالح «، »ريش«، »الندوة الثقافية«، »شامبليون«، »البورصة«، »سوق الحميدية«، »أفتر إيت«.. والكثير الكثير ممن لم تحفظ اسمها ذاكرتي أو لم يسعفني الوقت للجلوس فيها. والحق أن هذه المقاهي التي انطلقت من بعضها الثورة المصرية، أصبحت مخبرا حقيقيا للإبداع المصري وبديلا واضحا للمبدعين الشباب عن المؤسسات الرسمية التي قد تقصي بعضهم لحسابات ما. معرض القاهرة وسوق الأزبكية على غير ما توقعت، لم أجد معرض القاهرة الدولي للكتاب مكتظا في أول يوم، إلا أن الأمور تحسنت لاحقا، حتى أن آخر أيام تواجدي فيه عرف اكتظاظا شديدا وتزاحم القراء في أكثر من جناح. فقد شارك في هذا المعرض 24 دولة، سبعة عشر منها عربية، إلا أن المشاركة الجزائرية اكتفت بخمس دور نشر تمثلت في دار التنوير ودار النديم ومنشورات الاختلاف التي تشاركت مع منشورات ضفاف اللبنانية نفس الجناح، بالإضافة لوزارة الثقافة والمركز الجزائري للتوثيق والوسائل التعليمية. وهي مشاركة متواضعة نظرا لعدد دور النشر وأيضا للعناوين المعروضة التي لم تلق الكثير من الإقبال لدى زوار المعرض. قسم المنظمون دور النشر على خمس صالات تسمى سراي- تتوزع على مساحة أرض المعارض بمدينة نصر، وقد خصصت لبعض الدول صالات خاصة على غرار دولة الإمارات العربية، الكويت، السعودية وضيف الشرف الكويت، في حين خصص للناشرين العرب القاعة 19 وصالة »ألمانيا ب«.كما خصصت مساحة ل»سوق الأزبكية« المعروفة ببيع النسخ المستعملة والتي أضيف لعملها بيع نسخ »مضروبة« أي مزورة من الكتب التي تلقى رواجا في مصر. كان أول المتصلين بي وأنا أدخل المعرض فاطمة البودي صاحبة دار العين الشهيرة، إحدى دور النشر القوية في مصر والعالم العربي. تتالت بعدها اتصالات بعض الأصدقاء على غرار الروائية المصرية نهى محمود المعروفة بروايتها »هلاوس«، الشاعرة والمترجمة »نهى كمال« والروائي القاص حسام عمار. إلا أن المفاجئات كانت تنتظرني في »المقهى الثقافي«، وهي صالة خصصها المنظمون لتكون ملتقى للأدباء والكتاب. وفيها كانت لي أجمل اللقاءات. سوق الحميدية.. باب اللوق فاجأتني الروائية نهى محمود بالاتصال مساء ثاني يوم من زيارتي، تواعدنا بسوق الحميدية بمقهى باب اللوق. كان سائقي هذه المرة مجدي همام الذي كان يعيش ضغطا رهيبا بسبب الإجراءات البيروقراطية المتعلقة برخصة سيارته، لكنه ومع هذا كان لي أفضل مضيف ودليل على أهم معالم القاهرة الثقافية. في المقهى، وجدت نهى قد أعدت لي مفاجأة لا تخطر على بال. في طاولة واحدة اجتمع الشعر والرواية والترجمة والقصة والنقد من خلال أسماء ووجوه قرأنا لبعضها مما يصل إلينا في كل معرض دولي بالجزائر: الشاعر العامي محمود فهمي، الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف، الروائي والقاص محمد الفخراني، الروائي والقاص هاني عبد المريد والروائي الطاهر شرقاوي صاحب الرواية الجميلة »فانيليا«. لم تمض دقائق حتى انضم إلى المجموعة صديقنا الكاتب الإماراتي علي السويدي، ليبدأ حديث شيق متشعب في شؤون الأدب، ولولا التعب الذي باغتني على حين غرة لما رغبت أن تنتهي تلك الجلسة. فلور، طالب الرفاعي، إسماعيل فهد وخان الخليلي في اول يوم في معرض الكتاب، أخبرتني الناشرة الجزائرية أسيا موساي أنها التقت بصديقتي البريطانية، منسقة جائزة البوكر، فلور مونتانارو وترغب في لقائي. بعد أن هاتفتها واتفقنا أن نلتقي في اليوم الموالي بجوار مطعم جاد، ومن هناك اتجهنا صوبا إلى معرض الكتاب. عند دخولنا المقهى الثقافي، تفاجأنا بالروائيين الكويتيين الكبيرين إسماعيل فهد وطالب الرفاعي على طاولة واحدة مع العراقي المقيم في ألمانيا نجم والي ليلتحق بنا لاحقا الروائي المصري الكبير إبراهيم عبد المجيد. وإن كنت أعرف طالب الرفاعي من خلال متابعتي لكتاباته النقدية في الجرائد العربية وكذا لبعض أعماله التي وصلت إلى الجزائر، فقد كان اكتشافي للكبير حقا إسماعيل فهد إسماعيل. هذا الاسم الذي ظل يرافقني لسنوات من دون أن أتمكن من الحصول على مؤلفاته، ترجمته لنا تلك الجلسة صورة وأخلاق ودماثة قلما تشهد بها لكتاب بلغوا ما بلغوا من مجد وشهرة. طالب الرفاعي، كان كما تصورته تماما، حين وصفته لمجدي همام لم أجد من وصف يليق به إلا »الجنتلمان« فقد كان نبيلا في كل شيء. أدهشني اطلاعه على الجيل الجديد من الروائيين العرب، وطريقته في معرفة الجميل من الرواية. أمامإبراهيم عبد المجيد، فرجل حلو اللسان، حكاء بارع، يقتلع الضحك منك عنوة. رجل يملك روح طفل في جسد رجل. نجم والي.. لن أجد من وصف يليق به إلا أنه مشاكس بحق.... في نهاية المساء فضل نجم الانصراف إلى مقر ميريت ليرى صاحبها هاشم، في حين احترت وفلور وإسماعيل فهد وطالب الرفاعي أن نقضي السهرة معا. كانت فلور دليلنا في هذه الجولة التي أخذتنا إلى »خان الخليلي« حيث جلسنا في إحدى مقاهيها، مستمتعين بالحسين ومقهى الفيشاوي الشهير، لنفترق بعد أن تناولنا العشاء في ساعة متأخرة بمطعم »فلفلة« الشهير، مودعين فلور التي كان عليها السفر في صبيحة اليوم الموالي. حسن زكي.. لنا عبد الرحمان وحسام عمار إلى مركز الدوم الثقافي بالعجزة، دعتنا نهى محمود لحفلة عود للفنان حسن زكي. ومركز الدوم واحد من المراكز الكثيرة المنتشرة في القاهرة، والمعتنية بالإبداع. هكذا ظهر لي أن القاهرة تعيش وتقتات من الثقافة. أعتقد أنني وجدت في زيارتي للقاهرة الإجابة لسؤال طالما رواودني: »لم تعتبر مصر كعبة المثقفين؟«. وجدت الإجابة وأنا أتصفح وجوه الحاضرين وهم مستمتعين بعزف وغناء حسن، وجدته بهذا الاهتمام الذي ستلاحظه كلما تلفظت بأي شيء له علاقة بالإبداع، بكل ذلك الترحيب الذي تلاقيه، لا لسبب إلا لأنك كاتب تحمل هواجس الكاتب، وهي في الحقيقة نفس الهواجس بالنسبة لجميع الكتاب والفنانين والمبدعين، على اختلاف جنسياتهم العربية. صحيح لم تكفني خمسة أيام لأتعرف على القاهرة الثقافية، التي حاولت الروائية اللبنانية المقيمة في القاهرة لنا عبد الرحمان أن تصفها لي، أو تلك التي يحاول محمد هاشم من خلال »ميريت« أن يكرسها، أو تلك التي يأمل أن تكونها حسام عمار، او تلك التي تلمسها في أحلام إسلام عبد الهادي وهو يساعد في تشكيل الواقع الثقافي.. صحيح أن الخمسة أيام لم تكفي، ولكن أكانت ستكفي خمسة قرون لذلك؟...