كان الوقت قد تجاوز الزوال، ظلت الزوجة تذرع قاعة الاستقبال، تمد رأسها تارة من النافذة، وتسكن أحيانا منصتة، وقد بدت قلقة وهي تنتظر عودة زوجها، يتناهى إليها وقع أقدام فتسرع عجلة إليه. -منزعجة جدا لتأخرك. -أنا بخير بخير، إلي بكأس ماء. يحاول أن ينزع عنه صدريته فتمد يدها تعينه. -إنها مبللة بالعرق، يظهر أنك تعبت كثيرا. -إلي بالماء. تهرع إليه بكأس ماء، يعبه سريعا وهو يجلس على أريكة قديمة. -يظهر أن غداءك كان دسما. ضحك ساخرا وهو يضع الكأس على طاولة صغيرة. -لم نذق شيئا سوى الكذب، أمعائي تتقطع. -لا حرج حبيبي كل شيء يهون، ولماذا تأخرت، ألم يبدأ الحفل التاسعة صباحا، أم ؟؟؟ -أم ماذا؟ -يقينا اختطفتك إحدى معجباتك، إلى غداء فاخر، دفعت أنت ثمنه طبعا. يعتدل في جلسته واضعا رجلا على رجل في خيلاء. -حتما أنا أديب كبير، ولي المئات من المعجبات، ومن حقي أن أختار أجملهن. تضربه على كتفه مستاءة، ثم تسند ظهرها عليه. -شرير أنت حبيبي، أعرف أنك تمزح، مكانتك العظيمة لا تسمح لك بالتدني إلى مستواهن مهما بلغن من الجمال، ولكن لم تأخرت أيها المكرم المبجل، يا صاحب القلم الذهبي.؟ يقوم من مكانه متذمرا، يخطو باتجاه النافدة، كأنما يبحث عن نسيم يملأ به صدره. -المسؤول الكبير لم يأت إلا بعد العاشرة، قضى نصف ساعة خارج القاعة يتلقى التهريج والتزمير، وحين وصل إلى المثقفين المنتقين للتكريم، وقد وقفنا ساعتين بانتظاره، كنت منهكا جدا. يسكت لحظات ويواصل بألم: -كنت أتعرق بشدة، وقد تغشى بصري غبش شديد، كنت محتاجا إلى ماء أعبه بشراهة، أحسست أن السكري قد تدنى كثيرا. -سلامتك حبيبي سلامتك، لاحظت الآن تعرق صدريتك. -المهم كيف كان الحفل؟ المهم النتيجة. أرخى زمام ربطة العنق وقال مواصلا كلامه كأنما لم يأبه بسؤالها: -لم يزد المسؤول الكبير على أن صافحنا ببرودة، ودخل القاعة محاطا كفرعون بعشرات الحراس والكاميرات والكلاب اللاهثة. -اللعنة عليه، اللعنة عليه. -ودخلنا خلفه، كانت القاعة مكتظة عن آخرها، جلسنا بين جموع المهرجين في الخلف، وقد كانت الكراسي الأولى محجوزة للوفد المرافق. -أعرف يا حبيبي أنك لا تهتم بهذه الشكليات، وأنت مثقف كبير، المهم النتيجة، لابد أن يتلفت إلينا، لابد أن يزول عنا هذا الغبن، علينا ديون، ونحتاج إلى بيت نستقر فيه مع أولادنا. يعود إلى الجلوس من جديد في حين تبقى هي واقفة قلقة. -جلدونا بخطب رنانة لم يذكر فيها إلا فضائل جلالة الحاكم الأعظم، ثم نودي علينا، لنتسلم تكريمنا. تسرع إليه فرحة. -تكريم، تكريم؟ أين هو؟ أين هو؟ -ضيعته في الطريق. قالها بحزن وألم، تنكمش بجواره متألمة: -ضيعته؟ ضاع حلمنا؟ -لم يضع مني حبيبتي، ولكني ضيعته، رميته لتعبث به أيادي الريح. تستدير إليه بقوة كأنما تريد أن تشده. -ما تقول؟ ضيعته؟ كيف؟ هل يمكن أن تعبث به الريح. يضحك بسخرية، ثم ترتفع ضحكته حتى يدخل في هستيريا -سلمني الأحمق ورقة مكتوب عليها، "شهادة اعتراف وتقدير" يقر فيها بجهودي الجبارة في خدمة الشعب والدولة، وأمجاد التاريخ والشهداء الأبرار. يصمت لحظات يطأطئ رأسه. -ولما خرجت مزقت الورقة لتدوسها عجلات سياراتهم السوداء الفارهة. يصمت للحظات كأنما يرغب في البكاء. -وخضت في الشوارع مشيا على الأقدام، مدعوما بحبات التمر التي دسستها في جيبي صباحا، ثم انحشرت في حافلة بائسة لأعود إلى البيت. تسرع إلى المطبخ لتأتيه بصحن طعام وقارورة ماء، تضعهما أمامه وهي تنفجر بالضحك: -للأسف يا حبيبي، المثقفون في الشعوب الحية يسقطون الطواغيت، أما أنتم فتصنعونهم، ارض بمأساتك، ارض بمأساتك. تقوم، تحمل حقيبتها، وتنطلق خارجة. -حبيبتي، حبيبتي. -ذاهبة للبحث عن سعادتي، أنت لم تحقق سعادة الدنيا، ولا صنعت مجد الخلود، سلام. تخرج، ويندفع خلفها وحين تغيب يسقط مغشى عليه.