نور خافت يتسلل من نافذة صغيرة في أعلى جدار الزنزانة، برودة وعفونة في كل مكان، أفرشة بائسة يتكور فوقها أحدهم نائما، يظل الثاني وقد تغشته لحية كثة وانسدل شعره أشعث متسخا، يمد يديه إلى كل شبر من جسده يهرشه بأظفاره الطويلة، يتحرك رفيقه في مكانه، ينقلب ويغط في نوم عميق، يقترب منه الثاني ويركله. -قم أيها الحقير، قم. يجيب دون أن يتحرك. -اللعنة، لم تتركني أنام، كأن أظفارك منشار صدئ. -عجبت منك، لا تهرش مثلي، كأنك لا تحس بطبقة الأوساخ التي تراكمت فوق جلدك. يعتدل في جلسته، يطوي رجليه، يتأمل رفيقه لحظات، طاردا عن عينيه النوم، يقول مبتسما في سخرية: -وهل بقي لي جلد يحس حتى أهرشه؟ يصمت لحظات ثم يواصل، وهو يتكئ. -دخلت هذه الزنزانة قبلك يا رفيقي ويقينا سأظل بها حتى أموت. يجلس قربه دون أن يتوقف عن الهرش. -لا تقل هذا، لقد اقترب وقت إطلاق سراحي، انظر إلى الساعة، لم يبق إلا ربع ساعة وأعود إلى عالم الحرية، وأنت أيضا. -مستحيل. يبتسم له معانقا بذراعه اليمنى -لا يوجد مستحيل، أنا متفائل، تفاءل معي، تفاءل رغم أن جرمك كبير كما قلت لي. -نعم كبير. يقف وهو يحاول أن يتلصص على الباب -تفطنوا إلي وأنا أحاول اغتصابها، ما أفعل أحببتها وهي قاصر، حين أحاطوا بي قتلت منهم اثنين وهربت، وأثناء المطاردة قتلت رجل أمن، ولكنها الأقدار، حكم علي بالمؤبد، لكن السلطة رحيمة، صدر عفو رئاسي عني، من العار أن يحتفل الوطن بعيد انتصاره ويبقى أبناؤه في غياهب السجون. -صدقت، حرام والله حرام. يلتفت إليه فجأة. -ذكرني بجرمك، نسيت والله نسيت. -أخبرتك أني صحفي. -آه آه، تذكرت، فئة المشاكل والفتن. -صدقت، ارتكبت جرما كبيرا بالكتابة عن صفقات مشبوهة يقف وراءها مسؤولون كبار، اتهمت بنشر الفوضى وزعزعة الأمن والتحريض على الفتنة، والعمل لصالح جهات خارجية. -وبعدها؟ -زج بي في الزنزانة، حكم علي بالمؤبد -يا صديقي جرائمك خطيرة، أنت مجرم خطير، ما أرحمهم إذ لم يقتلوك، فعلا أميرنا طيب، كيف تتهم جَلَّت أخلاقه بالسرقة، وتتهم حاشيته أبقاهم الله ذخرا لنا بالسرقة، حرام، جريمة، والله كبيرة ستخلد بها في نار جهنم، نار سقر. يسمع وقع أقدام تقترب، يهرع السجين الأول إلى الباب، ويبقى الثاني في مكانه لا يتحرك ، يعود إليه الأول وهو يتأمل الساعة الحائطية. -لقد وصلوا يا رفيقي، لقد وصلوا، لم تبق إلا خمس دقائق، انظر انظر إلى الساعة، خمس دقائق وأكون حرا طليقا كالنسيم كالطير كالسحب في السماء، لا تبتئس سأدعو إليك حيا أو ميتا. يقترب منه أكثر في الوقت الذي وصل فيه وقع الأقدام إلى الباب، تفتح كوة صغيرة، ترمى منها ورقة، يهرع السجين الأول ويحملها، يقترب من نور النافذة الخافت ويقرأ. - صدر مرسوم بالعفو عن السجين الثاني، شريطة أن يسلم قلمه للسلطات المختصة. يرتفع السجين الأول فرحا: -هنيئا لك رفيقي هنيئا لك، لقد أطلقوا سراحك، سننشق الحرية معا، نحلق معا، ما أكرمك يا سعادة الأمير. يلتف إلى رفيقه الذي ظل غير مبال بما وقع، يسأله. -أخبرني، أخبرني، أين قلمك؟ -في قلبي. -أريده، أرني إياه. يخرجه إليه وهو يشد عليه بقوة. -هاهو. -يجب أن تسلمه. -مستحيل. -انظر، انتهى الوقت، سيقتحمون علينا الزنزانة ويخرجوننا -سأوقف الزمن. -لن تستطيع. يندفع موقفا عقرب السرعة الكبير، يندفع الأول إلى العقرب الثاني يدفعه إلى الأمام، ينفصل العقربان ويسقط السجينان فوق بعضهما دون حراك.