في المقهى الفارغة، يقف صاحبها خلف المحسب تائها، يضع رأسه بين يديه كالنائم، يجلس أحدهما في طاولة شمالا، ويجلس الثاني يمينا، تظهر على الأول علامات الثراء الفاحش، يرتب لباسه الثمين في كل لحظة، يعبث بمفاتيح السيارة أحيانا، وعلى الثاني تظهر علامات الفقر، يقلب جريدة بين يديه، يبتسم حينا، ويقهقه أحيانا أخرى، يزداد قلق الغني وتزداد حركته حتى تكاد تكون لا إرادية. -ياله من أحمق، طوفان الفقر يكاد يجرفه وهو يضحك. يعتدل الفقير في جلسته متنحنحا. -ياله من أحمق، تكاد أعصابه تحترق، من أجل دنيا زائلة. -قلبه بارد، لا يفكر في شيء، يمتصه الفقر من كل صوب وحدب، يصدق عليه أن يكون ضحية من ضحايا مصاص الدماء. يقوم من مكانه متجها إليه، ينظر عبر النافذة ثم يتراجع. -لا يمكن، لا يمكن، ليس من مقامي حتى أكلّمه. ينفجر الفقير بالضحك، ثم يصمت فجأة. يا لبؤسه، ما أسعدني أعيش هني البال، الحمد لله، العفاف والكفاف، ماذا أريد؟ لا شيء. خبز وحليب، وسقف من طين يكفيني. يمد رجليه فيظهر حذاؤه الممزق وقد أطلت منه قدماه. ينظر فيه الغني بقلق. -لكن لم يضحك هذا الأحمق، هل هو سعيد حقا؟ أليس العكس هو ما يجب أن يكون، طبعا، لكن يظهر أنه بليد، أنا من حقي أن أقلق. يقرأ بصوت مرتفع شعارا في الجريدة. -القناعة كنز لا ينفد. - شعار الضعفاء، يلوك مخدرا لأنه عاجز. - ما رأيك أنت في هذا الشعار؟ هل هو صائب، أم مجرد عبث؟ ومن وضعه أول مرة. يدقق النظر في الجريدة مرة أخرى ويعيد قراءة الحكمة. - القناعة كنز لا ينفد يرفع صوته مرة أخرى مرددا الشعار. -القناعة كنز لا ينفد. - أحمق، يردد موته، لا يملك إلا هذا الشعار، يحقن به نفسه في كل مرة، لينام أكثر، والأشد حمقا من وضع هذا الشعار أول مرة. - أتصور أن الشعار من خبث الأغنياء مثل هذا الأحمق، كي نظل فقراء، فلنظل، وما فعل هو بغناه ؟ - أتصور أن الشعار من صنع الفقراء ليواسوا أنفسهم الحمقاء، الضعيف دوما يبحث عن مبرر لخيبته، لكن ما معنى أننا أغنياء؟ عندي المال حقا، لكن أعيش على أعصابي دوما، الجميع ينافقني يكذب علي، حتى زوجتي وأولادي، الأمراض تنخر جسدي، السكري يكاد يبتلعني. يضغط الجريدة بين يديه بعصبية ويقف غاضبا: -فعلا شعار الحمقى، شعار الضعفاء، سواء وضعه الأغنياء لتخديرنا، أم وضعناه نحن لتسلية أنفسنا، هو مجرد مخدر، القناعة كنز لا ينفد، غباء، الكنز لا يكون إلا أموالا طائلة، سأخبره. يخطو إليه خطوات ثم يتوقف. -لن أستمر في هذه المهزلة، يجب أن أقنع نفسي بواقعي البائس، لا بيت لا سيارة لا مكانة اجتماعية، مجرد مخلوق مهمل في هذه الحياة، لا معنى لحياة دون متع. يقف الغني منزعجا وقد أكمل مكالمته الهاتفية، يحس بالألم في قلبه، يتحرك خطوات. -وما استفدت أنا من كل هذه الملايير، لا أجد حتى لحظات للراحة، ما أسعدني لو كنت فقيرا، أريد الصحة، الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا أراه إلا أنا، وهذا الأحمق أمامي كالدب، لقد قررت أن أعيش بقية عمري هنيا، ما أسعدنا أصحاء هانئين. يمشي كل منهما إلى الآخر، يلتقيان عند طاولة بينهما، يقول الغني: -اسمع أيها الفقير، ألم تكره هذا الفقر؟ يستدير عنه في أنفة. -حين تكره أنت غناك. -أنا كرهته، أرغب في أن أتنازل عنه إليك. يندفع نحوه فرحا. -حقا، حقا، شكرا أخي العزيز شكرا. -بشرط واحد يا صديقي. -وتشترط؟ ألا تخاف أن أرفض. -لا يمكن أن ترفض طبعا لأن الشرط بسيط -وهو؟ -أن تحمل أيضا علي أمراضي، كل أمراضي. يغضب الفقير ويعود إلى مكانه، يلحق به الغني. -لا تبالي يا صديقي، مجرد أمراض بسيطة، والأدوية متوفرة، لا تنس سأحمل عنك الفقر والجوع والمرتبة الهينة. يتباكى، وهو يسند رأسه إلى الجدار. -من أجلك لا يهم لا يهم. يستدير إليه ثانية. -وما تفعل أنت بصحة الحمار هذه، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ -صدقت، اتفقنا اتفقنا، على الإنسان أن يجرب دوما. -دعنا نوقع العقد بيننا. يبسط ورقتين يوقعها كل منهما، يتبادلان الورقتين، يتبادلان الثياب، ينطلق الفقير يصيح في الهاتف وقد احمر وجهه وانتفخت أوداجه، يحمل الغني الجريدة وهو في لباس أضيق منه، ويندفع خارجا مبتسما.