مني وغزة منا، وغزة ليست فصيلا محددا أو فصائل بل نسيجا ثريا ودافئا ضمد جراحاتنا في الانتفاضة الأولى عندما كنا صغارا وعلمنا كل دروس الوطن وجغرافيا الوطن وتاريخ الوطن.. غزة نحن كما رام الله ونابلس والخليل وجنين وبيت لحم وطوباس وأريحا وقلقيلية وسلفيت، وطولكرم والقدس العاصمة وبقايا روحنا في الجليل والمثلث والنقب ... غزة نحن وليس من الحكمة أن تكون عنوانا جزئيا للحالة الفلسطينية ولا لأي شكل من أشكال الإهانة مهما كان السبب. غزة الجرح وغزة النبض وغزة الحياة التي تواجه كل أشكال المقبرة ... لولا هذه الجغرافيا الضيقة ببحرها وفضائها لما صار الحلم الوطني ممكنا بعد مأساة النكبة، لولا هذه الجغرافيا الضيقة بحصارها لما اتسع الحلم الوطني وتمدد نضالا وثورة. غزة بلاغة التاريخ والأسماء التي امتزجت بروح الوطن المقدسة، غزة أبو عمار وأبو جهاد وصلاح خلف وأبو يوسف النجار ومعين بسيسو وهارون هاشم رشيد وكامل المغني ويسرى البربري وحيدر عبد الشافي ومحمد الأسود (جيفارا غزة) والقائمة أطول وأطول وأطول ... غزة الشيوخ والقساوسة والمساجد والكنائس ... لا يمكن اختصار كل هذا فجأة ... أو تجاوز كل هذا فجأة ..نعم أنا منحاز للتاريخ كي لا يسرقنا الحاضر منا وكي نظل نشبهنا ولا نغترب عنا أكثر ... كي يكون التاريخ ملهما لا فصلا منسيا في سجل الوطن. لا يمكن أن تكون غزة سببا لأي شكل من أشكال التشوه، كما لا يمكن لها أن تكون سببا لأي تقسيم جغرافي أو سياسي وإن بدا لدى البعض قابلا للتأويل أو التبرير أو التفسير. فغزة بحاجة لجهد الكل الفلسطيني للخروج من نفق الانقسام المظلم نحو مسار وحدوي قادر على مواجهة التحديات. دون ذلك ستظل المتاهة تسرق أعمارنا جميعا وتبعثر جهدنا الوطني في أزقة اللاجدوى وسنخسر المزيد من الوعي القادر على بناء مستقبل يليق بتاريخ وتضحيات شعبنا على مر السنوات. تدرك غزة أنها تدفع أثمانا باهظة على الدوام منذ أن تشكلت المدينة مع فجر التاريخ وصارت بوابة من بوابات الحضارة وهدفا من أهداف الغزو الخارجي المستمر حتى اللحظة. تدرك غزة أنها تدفع ثمن الانقسام وتحولات المنطقة واختبارات القوى المتعددة على شعب هو جزء من كلنا الفلسطيني يحاصره الاحتلال منذ أن عرف طريق الجنوب الفلسطيني لتصبح غزة سجنا على أطراف الصحراء، يود قادة الاحتلال لو أن يبتلعه البحر، غير أن غزة التي نعرف صابرة وتصبر ليس ضعفا منها فهي تدرك بحكمة الجدات والأمهات كيف ومتى ترمم صورتها، هذه الصورة التي حاول الكثيرون تشويهها سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا ولم يفلحوا ولن يفلحوا فغزة دوما الأقوى والقادرة على الانتصار. لست هنا في رام الله كي تكون غزة بعيدة ... أو كي أفقد تاريخا شخصيا أو وطنيا ... ولكنني هنا كامتداد للجغرافيا وامتداد للروح التي تعلّمناها وحفظناها في الدروس اليومية وفي دعاء الأمهات ... أنا هنا لأنني أؤمن بوطن اسمه فلسطين يحتضن كل الجغرافيا ولا يفرق بينها، وطن يحتضننا كما كانت تحتضننا الأمهات في الانتفاضة الأولى وهن يدفعن عنا خطر الجنود غزيتي جزء من فلسطينيتي، هي جزء من هذه الهوية الجامعة التي تحتضن التعدد الروحي والجغرافي وهي ليست تهمة في أن أكون هنا في رام الله كي أدافع عنها أو أبررها ... كما أن غزيتي ليست تهمة أدفعها عني بأي شكل من أشكال الصمت. إنها الصوت الذي يحركني ويدفعني كل يوم للعمل من أجل وطن لا يفرق بين مكوناته الجغرافية، فغزة الحاضرة في صميم الروح صورة مكثفة لوطن لم يعلمني التمييز. وهي التراب الذي كما ذكر الإمام الشافعي الغزي كحل العين المشتاقة حين قال:سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها كحلت به من شدة الشوق أجفاني فلسطين وطن ضد الانقسام والتمييز. فلسطين وطن الحقيقة والمستقبل