كان الجو ربيعيا منعشا، رغم حرارة الشمس التي اشتدت هذا اليوم على غير عادتها، أصوات زبائن راحوا يهرعون إلى المقهى طلبا لكل ما يطفئ ظمأهم، في ركن قصي جلست امرأة في الستين، تبدو أقل من سنها وقد حرصت على أن تمنح لنفسها فتوة بصبغة الشعر وبالمساحيق، وباللباس الذي صارت تختاره بعناية فائقة، كانت المظلة الملونة تعكس أشعةَ الشمس حمرتَها فتمنح المكان جوا رومانسيا، خلصت كلبها الصغير من سلسلته الفضية الثمينة، قفز إلى حجرها يلعق وجهها، ضحكت قائلة. -عزيزي، أعرف أنك اشتقت إلي. تحضنه إليها، يسرع إليها النادل: -بم أخدم سيدتي؟ تبعد الكلب عن وجهها قائلة: -عزيزي صار يلهيني عن كل شيء، اشتريته من روسيا بأغلى الأسعار، تنافست في المزاد مع خليجي، لكني والحمد لله فزت عليه، منذ دخل حياتي تغيرت جذريا. يبتسم النادل في بلادة ويقترب أكثر. -ظاهر عليك سيدتي، أراك صرت أكثر فتوة، كأن لم تتزوجي في حياتك، الكلاب أحيانا أكثر وفاء من الأولاد. -تبا لهم، تفرقوا علي ويريدون ثروتي، أقسمت أن أصرفها علي وعلى عزيزي هذا، ولن ينالوا منها دينارا واحدا. يحملق النادل فيها متمتما. -ليتني كنت عزيزك. تنتبه إليه دون أن تفهم جيدا كلماته، تسأل بهدوء: -عفوا، ما قلت؟ -لا، لا، شيء، أعتذر سيدتي. -بل قلت، ويجب أن أسمعها منك الآن. يضطرب متمتما، يعتدل في جلسته: -قلت ليتني كنت كلبا مثله. تنخرط في ضحك هستيري: -لا، لا يمكن، هذا عزيزي الذي لن أفضل عليه أحدا. يمد يده ليلمسه. -حقا إنه رائع ومدهش وعبقري. -إياك أن تلمسه، إنه ملقح ضد كل الفيروسات والميكروبات، وأخشى عليه كل عدوى. يسرع النادل بتغيير دفة الحديث. -صدقت، لكل حظه، بم أخدم سيدتي؟ تضع الكلب على الكرسي المجاور. -أريد مثلجات ملكية، من أجود ما عندكم. -حاضر حاضر. يستدير مبتعدا، تعيده صارخة. -ياو، إلى أين أيها الأبله؟ يستدير إليها مضطربا. -أمرك سيدتي. -ولعزيزي مثله أيضا، لكن في صحن يليق بمقامه، ليس أحب إليه من لعق مثلجاتكم الملكية. يندفع النادل ملبيا، ويعود بها سريعا. -شكرا، شكرا، كم أنت خدوم، خذ تفضل. يمسك الورقة النقدية، ويشتغل بالبحث عن الفكة، تضبط الصحن أمام الكلب فيشرع في التهام حصته، تنتبه إلى النادل. -ما تبقى لك. -ولكن هذا كثير سيدتي. -أنت خدمتني وتستحق أن تكرم. -شكرا سيدتي الكريمة، خادمك الأمين. تضحك وهي تأكل من كوبها قائلة. -شكرا، لكن لا تتطلع مرة أخرى لمقام عزيزي. -عفوا عفوا. يبتعد مهرولا، وتغرق هي في التلذذ بأكل المثلجات حينا، محرضة كلبها على أكل حصته. يقترب منها شاب، يحمل عشرات الكتب على لوح يعلقه في رقبته، يلقي التحية. -عمت مساء سيدتي. ترفع فيه بصرها مستاءة من تطفله المفاجئ، سألت بغضب. -ليس لدي صدقة. -أنا كاتب سيدتي. -ما معنى كاتب؟ -أؤلف كتبا، هذا آخر ما كتبت، انظري أني أبيعها بثمن زهيد. يقرب منها كتابا تمسكه على مضض، المهم أن تقرئيه، أعطيني فيه ما أردت. تعيد إليه الكتاب، قائلة بغلظة. -آسفة ليس لي وقت لقراءة هذه الخزعبلات، وآسفة لا أحب المتطفلين. يعيد إليه كتابه ويندفع مبتعدا. -تقوم من مكانها غاضبة، تعيد قبعتها، تحتضن كلبها، وتنطلق. -آسف عزيزي، أفسد علينا هذا الغبي المتطفل جلستنا الرومانسية، لابد لنا من حمام. تندفع مبتعدة في غضب شديد.