سي حاج محند م. طيب الحلقة 17 ولما حصلت على وثيقة الأكاديمية لاستعمالها في طلب السكن ذهبت إلى مقر ولاية (نيم) لتقديم الطلب، وكانت شؤون المهاجرين في القبو الذي وجهت إليه، ولكني أعلنت أن حاجتي في مصلحة الشؤون الاجتماعية فسمح لي بالمرور إلى الطابق الثاني. قدمت نفسي مع ذكر حاجتي، مستعملا وثيقة الأكاديمية، فقيل لي: عليك بالانتظار، قلت: “كم أنتظر..؟، أسبوعا”؟.. قيل لي: “ربما اثنين أو ثلاثة، وعلى كل حال عليك بتقديم الطلب “. فرحت كثيرا لأنه قيل لي في الودادية: لا تطمع في السكن بالعمارات، فهناك من قدم طلبا منذ أربع سنوات ولم يتلق الرد، قلت للموظفة: “هل الطلب عادي أو هناك مطبوعة خاصة”؟. رأيت الفتاتين تبادلتا النظرة، ولسان حالهما يقول: هذا العفريت يعرف كيف تسير الإدارة. سلمت لي المطبوعة وخرجت. وفي الغد مساء عدت إلى المصلحة وبيدي ملف مرتب أحسن ترتيب وسلمته. وفي اليوم الثالث خرجت باكرا للتفتيش في مدينة أخرى، وعند العودة مساء بشرني المعلم الذي نزلت عنده أني وضعت طلبي مدة ساعتين وفي انتظاري سكنان اثنان؛ لأن المسؤولة التي تعمل في الصباح فقط قد اتصلت به، وحددت لي موعدا لاستقبالي. ويوم الموعد وجدتني أمام امرأة كبيرة تجمع بين الجدية والطيبة. استقبلتني بكل احترام وقالت: “وجدت لك سكنين في حيين مختلفين، ومدير الشركة في انتظارك بمكتبه، وإذا لم يعجبك الحيان فسيعرض عليك غيرهما، لكن انتظر لأسحب لك نسخة من وثيقة الأكاديمية فهي أجدى”. قلت في نفسي: نعم سيدتي وهذا ما دفعني للسعي على الحصول على هذه الوثيقة…ثم قلت مخاطبا لها: “لا داعي سيدتي ولدي نسخ منها”.. وقفت كأنها في تحية عسكرية، ورفعت صوتها بكل إعجاب قائلة: “إنك جد منظم يا سيدي”. خرجنا وقلت للمعلم الذي كان برفقتي: “كفاني هذا التقدير ولو لم أحصل على سكن؛ لأن كثيرا من إخواننا سامحهم الله يحسبوننا نحن المعربين بلهاء لا نحسن أي تصرف”. هزة في أكاديمية مرسيليا يوم كنت مشرفا على الشؤون الثقافية دعاني المندوب الجهوي للودادية لاستفساري: هل قدمت فعلا شكوى ضد أكاديمية “مرسيليا”؟، مما جعل وزارة التربية تراسلهم في القضية. ولما أخبرته بأني لم أقدم أية شكوى، إنما ذكرت فقط في تقرير الدخول أن بعض المديرين يحتكرون الصبيحة للفرنسية، ونسخة التقرير موجودة عنده. قال: “اذهب وانظر كيف تسوي القضية”. ذهبت واستقبلني بالأكاديمية المنسق لتعليم اللغة والثقافة الأصلية لكل الجاليات. وبعد تحية المجاملة سألته: “هل تظنني شكوت بكم يا سيدي…”؟، قال: “نعم، وقد تلقينا رسالة من الوزير، وهذا في نظامنا أمر ليس بالهين، ومفتش الأكاديمية حمّلني شخصيا المسؤولية، ولِم فعلت ذلك؟، ولو جئتني لوجدنا حلا لكل مشكل، ولقد نبهت كاتبتك أن تتصلوا بي عند حدوث أي خلل”… قلت له: “أنا لم أرفع أية شكوى يا سيدي، وكل ما في الأمر أنني قدمت تقرير الدخول، وهو عبارة عن أسئلة يجاب عنها”.. بدأ توتره ينخفض… تصورت أنهم ربما قالوا في غيابنا: إن هؤلاء يريدون أن يستعمرونا في بلادنا…. واصلت كلامي: “لا تظنوا سيدي أننا جئنا إلى بلدكم نتصرف كما يحلو لنا.. أبدا. ومشكلتي هي: كيف أجعل معلمي يعمل 27 ساعة أسبوعيا مثل معلمكم، إذا منعنا من استعمال الصبيحة، حيث لا يبقى لي سوى أربع أمسيات في ثلاث ساعات جملتها 12 ساعة فقط.. قدم لي حلا من فضلك وسآخذ به وأنت مشكور”… تبسم وقال: “الحق معك”. وفي مدينة “إكس أنپروفانس” عُين معلم لمدرسة مديرتها عنصرية، حرضت التلاميذ على رفض تعلم العربية، وبقي المعلم مدة لا يعلّم بعد فشل كل محاولاته مع الأولياء. وذات يوم ذهبت معه إلى المديرة، وبعد تحية المجاملة سألتها: “لم لا يعمل المعلم وهو يتقاضى أجرته يا سيدتي”؟، أجابت: “أنت تعرف أن تعلم اللغة الأصلية ليس إجباريا، والتلاميذ لا يريدون”، سألتها: “لماذا في رأيك هذا الرفض”.؟، أجابت: “لأنهم يخشون أن تضيع منهم الفرنسية التي تنفعهم في الامتحان وهذا صحيح”، قلت لها: “إذا أنت مع هذا الرأي”.. قالت: “نعم وهو الصواب”، قلت لها: “يا سيدتي، لنا في الجنوب الفرنسي كله (24 ولاية) ثلاثة مديرين مثلك، يعني أنتم الأربعة فقط تفكرون في مصلحة هؤلاء التلاميذ. أما الحكومتان الفرنسية والجزائرية، وأما المفتشون الفرنسيون والجزائريون، وأما المعلمون الفرنسيون والجزائريون والمديرون الفرنسيون الذين قبلوا هذا التعليم فكلهم اتفقوا على مضرة هؤلاء الأطفال سواكم أنتم الأربعة؟… سكتت في ضعف وخذلان، ثم قلت لها: ” لقد تخاصمنا كثيرا وكيف نعمل”؟… قالت: “لا، لكن تناقشنا”، قلت لها: “بل أقسم لك أننا تخاصمنا… والآن ماذا نفعل”؟، قالت: “قل لي ماذا علي أن أفعل”، قلت لها: “تستدعين أهالي الأطفال باسمك كمديرة ويكلمهم المعلم بحضورك”، قالت: “نعم”.. ففعلت وباشر المعلم مهمته. سلوك مشرف من ذلك مثلا أني تناولت طعامي بمطعم بمدينة (پيرپينيه)، ولما خرجت تفقدت وصل الدفع وتبين لي أني دفعت أقل مما يجب علي، وعدت لإصلاح الخطأ ولكن وجدت المحل مغلقا، وقررت أن أعود إليه في الغد لدفع ما بقي بذمتي، لكن أخبرت أن علي أن أكون غدا في اجتماع بأكاديمية “نيم” على الساعة 9 صباحا، مما حتم علي الانطلاق باكرا. وبعد شهرين وثلاثة أيام عدت للتفتيش في المدينة المذكورة، وقصدت المطعم لتصحيح الخطأ، ولما فاتحت صاحبة المطعم بالأمر أبدت نوعا من الارتباك؛ لأنها كانت تتوقع أن أطالبها برد زيادة دفعتها لها… ولما وضحت لها الأمر أنني أنا الذي سأدفع لها ما بقي بذمتي، أجابت بلهجة كلها إعجاب ودهشة: «شكرا شكرا يا سيدي، عدت من أجل أن تدفع ما عليك بعد شهرين وثلاثة أيام..؟، شيء لا يكاد يصدق…أمثالك غير موجودين وإن وجدوا فهم قليلون»… سرت في أرجاء المحل همسات وهمهمات الاستغراب والإعجاب؛ لأني العربي الوحيد بين الجميع… ولما قصصت الحكاية على أحد مهاجرينا استغباني وقال: “كيف ترد لهم الغلط وهم فرنسيون”؟، قلت له بنبرة فيها بعض الحدة: “بهذا أهنتمونا وفضحتمونا وشوهتمونا وأرخصتمونا ولوثتم سمعتنا…إذا كان هذا الكلام عندك لا قيمة له، فهو عندي لا يقدر بثمن، ألا ترى أن كلامها جلب شرفا واحتراما لبلادي وديني وجنسي ولي أنا شخصيا”؟. وقصصت الحكاية على فرنسي، وسألني لِم فعلت ذلك؟، قلت له: “لأن ديني منعني من أكل أموال الناس”.. قال: “أأنت مسلم”؟، قلت: “نعم”.. قال: “هل إسلامك أنت وحده”؟، قلت: “لماذا”؟، قال: “لأن المسلمين لا يفعلون هكذا مثلك”.. قلت له: “قل لي هل ما فعلته حسن”؟، قال: “ممتاز”.. قلت له: “ومع ذلك لا أدعي أنني أطبق الإسلام مائة بالمائة، وربما في حدود 70 أو 80%، ولو كنت أطبقه مائة بالمائة لرأيتني كملاك أمشي على وجه الأرض. أما خطؤكم أنتم فإنكم تسمون إسلاما أخطاء المسلمين التي نهاهم عنها دينهم”، قال: “لو يعرف الفرنسيون أن الإسلام هكذا ما بقي أحد منهم خارج الإسلام”.. قلت: “نعم. وهذا ما ينقصكم مع الأسف”. دخلت المستشفى لإجراء بعض الفحوصات، وكنت في حاجة إلى بعض الأشياء، وسألت المشرفة هل يسمح لي القانون بالخروج؟، قالت: “اذهب ولكني لم أرك”. بعد مدة نظرت إلى الحجرة ورأتني، قالت: “اذهب وسأخبر الطبيب”، عادت بعد مدة أطول ورأتني. دخلت الحجرة وقالت: “لِم لم تذهب”؟.. قلت لها: “عفوا سيدتي لم أسألك أن تدليني كيف أحتال على القانون، لكن سألتك عن حكمه؛ لأن القانون وضع لصالح المرضى وعلينا أن نحترمه”، قالت: “إنك منضبط تمام الانضباط وإنك قوي الإيمان “… لأنها كانت تراني أواظب على الصلاة. وعلى فكرة دخلت مستشفى (كوشان) بباريس عام 1977، ولاحظت مرة في جناح الفحوصات أن أحد المرضى أُجل فحصه لغياب ملفه الطبي، وآخر انصرف قبل أن يكمل فحوصاته، فأعيدت برمجتهما من جديد، ومنذئذ كلما دعيت للفحص أسأل: “هل آخذ الملف معي أو أجده قد سبقني”، لأن العمل كان بالطريقتين معا. وكنت أتلقى الجواب بعد التأكد مع الشكر، لأني أساعدهم في التنظيم. ولم يحدث أن جاءوني للعلاج ولم يجدوني في سريري، كما يحدث لهم مع بعض المرضى، وحتى في الأمسيات لا أخرج إلى الحديقة حتى أستفسر إن لم يكن لي علاج.. ويوم خروجي ذهبت لتوديع المشرفة على الجناح، واعتذرت لها عما يمكن أن يكون قد صدر مني من خطأ، وكانت تكتب، فوضعت القلم جانبا وقالت بلهجة كلها تقدير وإعجاب: “أمثلك يخطئ يا سيدي..؟ بل إن المرضى مثلك غير موجودين وإن وجدوا فهم قليلون”. ذات يوم دخلت إلى مطعم الخدمة الذاتية ودفعت ما طلب مني، نظرت وصل الحساب الذي يحمل أرقاما فقط وشككت في الحساب. عدت إلى الوراء ونبهني المراقب أن الخروج من الباب المقابل، قلت له: “أريد رئيس المصلحة”، قال: “أنا هو”، قلت له: “أنظر هل توجد قارورة (أورانجينه) في هذا الحساب”؟، نظر وقال: “لا”، قلت: “هاك خذ قيمتها”، قال مندهشا: “شكرا يا سيدي ليس لنا كثير من الزبائن مثلك وربما غير موجودين أصلا”. وذات يوم اشتريت خبزا ودفعت ورقة مالية ذات قيمة كبيرة، وقالت لي البائعة: “ليس لي فكة: (الصرف) وهات ما عندك والباقي ليوم آخر. وبعد أسبوع عدت لنفس المخبزة لشراء الخبز فدفعت ما علي، ولكن البائعة لم تتذكر المبلغ القديم الناقص وذكّرتها به فدفعته وقالت: “ليتنا نتعامل مع أمثالك.. شكرا شكرا جزيلا يا سيدي”. سمعت همسات وهمهمات الإعجاب من المحل المكتظ بالمشترين. انتقل معلم من “تولوز” إلى “مرسيليا” وبعد تعيينه بمقاطعة زميلي جاءني إلى المكتب وقال: “لم يدفعني إلى ما أقوله لك لا الخوف ولا التزلف. لقد كنت أود أن أعيّن بمقاطعتك بعد أن سمعت المعلمين يقولون: سي حاج رضي الله عنه كلما ذكروك، ولكن لم يسعفني الحظ”. وفي احتفال بيوم المرأة الثامن من مارس قصدنا مدينة “اڤران كومب”، وقبل انطلاق الحفل جاءني أحد الحاضرين وأخذ يشتم ويقدح في الجزائر وكل ما يتصل بها. وبما أن كلامه ليس فيه أي فكرة تستحق النقاش لم أعره أي اهتمام. ولما أفرغ ما في جعبته ختم كلامه بقوله: “انظر انظر إلى أبناء الجزائر كيف ضاعوا”؟، وأشار إلى مجموعة من الشبان الذين غص بهم المكان الذي يسمونه: “الدار للجميع” والذي يترددون عليه دائما لفراغهم الممل، عندئذ سألته: “هل تتركني أتكلم قليلا لقد تكلمت أنت كثيرا”؟.. قال: “تكلم”، قلت: “أين ولد هؤلاء”؟، قال: “هنا بفرنسا”، قلت: “مع من كانوا يقرأون في المدارس”؟، قال: “مع أولاد الفرنسيين”، قلت له: “لماذا لا يوجد أي واحد من أولاد الفرنسيين هنا”؟.. سكت. واصلت: “ألا تستطيع الميزانية الفرنسية أن توفر لهؤلاء مقاعد للدراسة؟، وهي التي تغلق المدارس لانعدام من يقرأ فيها”، قال: “صحيح”.. قلت: “ولكنكم أنتم احتقرتم الجزائر وكنتم تقولون: لا نترك أبناءنا يعلمهم الممرن بالجزائر، بل نأخذهم إلى بلاد العلم والعلماء والملائكة… قل لي بربك كم أستاذا وكم طبيبا وكم مهندسا تعرفهم من أبناء المهاجرين”؟، قال: “في الحقيقة لا أعرف أحدا”، قلت له: “ولكن في الجزائر تخرّج أبناء الفلاحين أطباء ومهندسين وأساتذة وإطارات… أما أنتم يا من تعتبرون أنفسكم فاطنين، فاشبعوا إذا من بلاد العلم والملائكة. يكون أحدكم يفني عمره وشبابه وصحته وماله في فرنسا، ثم يسب ويشتم الجزائر ويتهمها بأنها أكلت حقوقه”، قال: “أنا عندي هنا بفرنسا 26 سنة”، قلت له: “إذا أنت كمثال: أين أفنيت عمرك.. وشبابك.. وصحتك.. ومالك؟، أليس بفرنسا؟، وماذا قدّمت بربك للجزائر حتى تطالبها اليوم بحقوقك؟…وحتى عند مجيئكم في العطل، فإنكم لا تحملون معكم شيئا من العملة الفرنسية، بل تصرفون الدينار…أنت حقوقك عند فرنسا، وهي التي أفنت حياتك، وامتصت صحتك، وجففت شبابك، والتهمت أموالك؛ فاطلب حقوقك من فرنسا.. ومع ذلك فالجزائر لم ترفض أحدا منكم إذا عاد إليها قال: “والله لقد أخطأنا خطأ فادحا، ولكن مع الأسف لم ندرك ذلك حتى فات الأوان…”. يتبع