عندما يتلقَّى المرء كلمة «شطحات» عادة ما ينصرف الذهن إلى اللامعقول من سلوك الإنسان،وكأنَّه في حالة هذيان وتخريف.فأمَّا أن تُضاف الكلمة إلى «أنثى»، فذلك من شأنه أنْ يشحنها بمزيد من الاستهجان والاستخفاف بوصف فعل القراءة يحدث في مجتمع ذكوري يضع قضية الجنس في مقدمة انشغالاته المُحرَّمة والمطلوبة في آن.ولعلَّ هذا المعنى أن يكون موْروثاً ممَّا عُرف عن بعض المتصوِّفين من شطحات أنكرها عليهم الناس ومتصوِّفون آخرون أيْضاً، وكثيراً ما رأوا فيها انحرافاً عن الدين. لكنَّ قارئ الرواية سيصادف أجواء أخرى من الحزْن تلفَّ المقروء منذ الإهداء الذي يتصدَّرها.إذ من خلاله تُعْلن الكاتبة عن آلام تتعمَّق وتتكرَّر بصيغ مختلفة: ((الحرف الموصد بالغياب- وقع الذاكرة- عانقني الوجع- أصعدُ أدراج الألم-اليتم يتأبَّطني-أسدُّ منافذ يُتْمي-أتعثَّر وأتساقط-ازدَدتُ شوقاً..)). ثم ترى نفسها صورة من وهران أو أنَّ وهران صورة منها: ((كم أُشْبه وهران.. كلتانا أنثى وكلتانا تنام بوجع !! نغفو هناك خلف القمر. فلا شمس تدفئنا ولا ضوْء يوقظنا غير غزة تخزنا بين فينة وأخرى كأنها تتفقَّد الحياة داخلنا..))ص:9 فهي تجعل من هذا التشابه مدخلاًً لتصوير معاناتها، وحين تستند إلى ضمير المتكلِّم تحمل القارئ على أنْ يندمج في النص كما تجعله يعيش حالة من التوتُّر لا يعرف مصدرها إلا إذا تدرَّج في القراءة. فهذا «الأب» الذي تعيش معه ،يشتغل تاجراً بالجملة، يتنقَّل بين الجزائر واسبانيا وبلدان أخرى،يجعلها في شوق دائم محرومة من هدية أو لعبة بخلاف ابنتيْه الأخرييْن، يمارس تمييزاً واضحا مفضوحاً يزيدها قَلقاً فتنكفئ على ذاتها وتفسح في المجال لتداعياتها المُحيِّرة.وحين تزور عمَّتها الأرملة في الجزائر العاصمة تكتشف عالَماً آخر من العادات تختلف عمَّا عرفته في منطقتها بالغرب.وشيْئاً فشيْئا تنشأ علاقة حب بينها وبيْن ابن عمَّتها(عمر)تظهر فيها متمنِّعة إلى أنْ يصبح (عمر) بعد مدَّة شخصاً آخر بفعل ما شحنتْه به موجة التيار الإسلاموي حيث تنقلب حياة الأسرة رأساً على عقب إلى أنْ يُقْتل طلباً للجنّة الموعودة. هكذا تقودها قصة(عمر)- استطراداً- إلى جانب من تاريخ البلاد، لا تعرضه بشكل تقريري فجّ،وإنَّما تُلمحُّ إليه من خلال هذه العلاقة التي لم تدُم طويلاً بيْنهما. لكنَّنا ندرك أنَّ الأحداث المتسارعة المشحونة بالدين كانت كفيلة بأن تُغيِّر مجرى الحياة على نحو مأساوي ، فلا هي حقَّقت أمنيتها من شخص صارت تحبُّه، ولا هو عاش حياته بطريقة طبيعية، ولأنَّ البلد يعيش تحوُّلات مفجعة وغير مسبوقة. ((لم تعد الجزائر كما كانت..باتت في الأجواء رائحة لم يستطع الجزائريون وقتها الإلمام بها خصوصاً بعدما فُتح الباب على مصراعيْه للاختلاف السياسي..بعدما نشط لعقود في السراديب..ما عجَّل بنزول خريف دموي لاحقاً..أتى على الأخضر واليابس !!!))ص:89-90 كلَّما انتقلنا من فصل إلى آخر تزداد الحيْرة، ويستمرُّ التوتُّر،وتتلاحق الأسئلة عن الجدوى من حياتها ووجودها ،كما تزداد رغبة القارئ في اكتشاف السرِّ الذي يكمن وراء كل هذه المعاناة، ولأنَّ الفتاة بلغت درجة من اليأس تحاول أنْ تنتحر وتنجو بأعجوبة،ما يضطرُّ الأمَّ لاحقاً إلى أنْ تكاشفها بحقيقتها. فهي طفلة غير شرعية. إنَّ هذا الموضوع-في حدود ما أعلم- قد يرِد في بعض الكتابات عرَضاً، لكن نادراً ما نجده موضوعاً رئيساً في الكتابة الروائية. وممَّا يجعله مثيراً في بعض الجوانب أنَّ الكاتبة تطعِّمه بأبعاد نفسية لا تقتصر فيها على معاناة الذات الكاتبة، وإنَّما تحاول أن تسْتكْنهَ ما يجول بذهن زوج أمِّها ووالدها الأصلي.لماذا ينكرها الأوَّل كلَّ هذا الإنكار ويعاملها بجفاء قاس؟وتحاول أن تجيب فتقول: ((ولكن ما من رجل شرقي يغفر الخطيئة.. وأنا كنت الخطيئة التي تتنفَّس، الخطيئة التي تكبر أمام عيْنيْه..كيف له أنْ يتجاوز خطيئة تمشي وتتحرَّك؟؟؟ تكبر وترتفع؟؟؟ تبكي وتضحك؟؟؟أيُّ قَدر هذا؟ هل كان سي الهبري هو الآخر ضحية؟؟؟ ضحية الحب؟))ص:132 ولماذا يبقى الثاني غائباً يلتزم الصمت؟وبعدما تكشف لها أمُّها عن الحقيقة، تقرِّر في لحظة ما أنْ تبحث عن والدها الحقيقي إلى أنْ تجده مُنْزوياً في ركن بإحدى القرى وحيداً مع أمِّه ،يقرأ الأدب وبسمع أم كلثوم،ولعلَّه فضَّل أنْ يبقى وفيّاً لحبِّه الأوَّل الموْءود، فلم يُفكِّر في امرأة أخرى. لطالما عاشت مقهورة مقصاة، ، ولطالما سعت بشتَّى الوسائل للتقرُّب من «أبٍ» لعلَّها تكسب حنانه ورضاه، لكنها كلَّما حاولت تصطدم بجدار من الإنكار.فلا تملك بعد محاولة الانتحار الفاشلة، إلا أنْ تبحث عن طريق آخر للمقاومة والتحدِّي، فتعود إلى القرية التي نشأ فيها الحب الأوَّل وكانت بذْرتَه،أيْن سيتحقَّق وجودها وحيث ينبعث الأمل من جديد. يمكن أنْ نرى إلى الرواية على أنّها مجموعة من المقطوعات القصصية: (الأب،الأم، عمر وأسرته،محمود، الوالد الأصلي)،لكنَّ الكاتبة- وهي تختار ضمير المتكلِّم- قد أحْكمت الربط بيْنها، وحيث لا فرْق بيْن السارد والذات الكاتبة، فقد تمَّ التنسيق على نحو يجعلنا ننتقل من قصة إلى أخرى بسلاسة،إذ تتمحور جميعها حول ما تعانيه فتاةٌ ساقها القَدر إلى أنْ تولد ولادة مُستعصية وتوصف بأنًَّها غير شرعية وهي التي خرجت إلى هذه الحياة بغير إذْن منها، وإن كانت في الأصل هي الولادة الشرعية، لأنَّها نتيجة علاقة حب خالص أُجْهض بسبب عقلية المجتمع الذكوري البالية. ومن خلال المونولوج المطوَّل، قد تستدعي أم كلثوم أو الشاعر نزار قباني أو ترى امرأة في المنام أو تورِد رسالة على لسان إحدى الشخصيات،أو تستشهد بعبارة لكاتب ما، لكن ذلك كلَّه يصبُّ في تعميق المعاناة، معاناة الشعور الدائم بالإقصاء، فلا تملك إلا أن تتخفَّى وتراقب ممارسات لا يمكن أنْ يفعلها والدٌ تجاه ابنته، ما يزيدها حيرة وألماً. ((بل وأنا أطفئ شمعتي الثامنة عشرة لم تمت فيَّ الطفلة الظمأى قط..أتصرَّف كقطَّة متهوِّرة.الطبقة العلوية كانت مخفري للتجسُّس على العوالم الماورائية. .أراقب والدي..أتصنَّت من وراء باب غرفتي، أحاول أنْ ألتقط أنفاسه من وراء الجدار. أختلس الخطى خفية لأطلَّ عليه حين يكون مع بناته))ص:32 تعتمد (ليلى عيون) لغة سهلة لا تعيق الاسترسال، وتصادفك عبارات وفقرات أدبية جميلة قد تنطوي على قَدْر من التفلسف أحياناً، وهي حين تصف، فإنَّ الوصف لا يأتي مقصوداً لذاته أو أشبه برقعة مستقلَّة تزيِّن المشهد وحسب، بل يندرج ضمن الفكرة التي يقتضيها السياق. لذلك أقول مراراً، إنَّه من الضروري نلتفت إلى كتابات الجيل الجديد، هؤلاء الذين لم تمنحْهم المنظومة التربوية سوى المبادئ الأولية للقراءة والكتابة،وبعضهم لم يختصُّوا في دراسة الأدب أصْلاً ولكنْ، لأنَّ بيْنهم موْهوبين، فإنَّهم يجرِّبون الكتابة الأدبية وما فتئوا يطوِّرون أدواتهم باستمرار. المصدر: شطحات أنْثى، عيون ليلى، دار الفارابي –بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، كانون الثاني، 2016.