لم يُقرأ كاتب ياسين بشكل أكاديميي يسمح بضبط منجزه، بقدر ما استثمر أيديولوجيا، ولغايات نفعية، في حين أنّه كان مغايرا للمنظورات التبسيطية التي نقلته إلى عالم وهمي، إن لم يكن مناقضا لحقيقته التي تعكسها المتون وبعض الحوارات، ما قد يبدو مناقضا لتصريحاته التي خلفت جدلا كبيرا. لقد كان يدلي بتصريحات مثيرة. يقول عبد العزيز بوباكير:«تصريحات كاتب ياسين المدوية وانفعالاته العنيفة وأمزجته الحادة دفعت الرئيس هواري بومدين ذات يوم إلى القول: من الأفضل لكاتب ياسين أن يكتب ويسكت، فهو لا يحسن الكلام (...) يتذكر الطاهر بن جلون حادثة وقعت في حيدرة في ماي من سنة 1982 حدثت خلالها ملاسنة عنيفة بين كاتب ياسين ووزيرة الثقافة اليونانية ميلينا ماركوري بحضور وزير الثقافة الفرنسي جاك لانج (...) لم يكن كاتب ياسين مرتاحا في هذا اللقاء، وانتفض كعادته ممجدا ستالين والشيوعية، وهو ما أثار حفيظة ميلينا ماركوري التي كانت لا تزال تحت صدمة ديكتاتورية حكم العقداء في اليونان. كان كاتب ياسين تحت تأثير الخمر الذي أزال عقدة لسانه وجعله ينطق بما لا يقال». بمقدور المتلقي، تأسيسا على مرجعيات المسرحي، قراءة بعض مسارات المسرحيات وتوجهاتها. ذلك أن المرجعيات توضح كيفية تشكل الأفكار واشتغالها، والمنحى العام لصاحبها. لقد أثث كاتب ياسين نصوصه انطلاقا من زاده المعرفي، من التنوّع الضارب جذوره في الأديان والأساطير والحكايات الشعبية والآداب العربية والعالمية والمسرح. تشير بعض الدراسات، ومنها «نبي العصيان» لعياشي احميدة، إلى أنه كان مطلعا على عدة ثقافات وديانات وأيديولوجيات ومصادر ومؤلفات تاريخية، ومنها الماركسية التاريخية والوجودية والتصوف (ابن عربي) والإنجيل والتوراة والقرآن والمعري والثورة الفرنسية، وكما تعاطف مع الأمير عبد القادر تعاطف مع ستالين وآية الله الخميني والجنرال جياب (في حربه ضد الأمريكان) والكاهنة، وقرأ للرحالة ابن بطوطة وكتب عنه، كما قرأ أشعار محمود درويش وبودلير ورامبو. كان معروفا بمواقفه المتشددة ضد رجال الدين المحافظين، لكننا لا نعرف ارتباطه بالصوفية. لقد كانت حياته مثالا لذلك: عاش زاهدا، مطلعا على كتابات محي الدين بن عربي « الفتوحات المكية «، وكتابات الأمير عبد القادر الصوفية، وكان يدافع عن الحريات السياسية والثقافية والعقائدية، وهذا ما جعله يتشبث بالحرية التي جعلته يبدو معارضا للسلط ذات الطابع الشمولي». المؤكد أن هذا الكاتب سعى إلى عدم اختزال الإنسان في انتمائه وحدوده الصغيرة كمرجعيات مستبدة، بقدر ما كان مهتمّا بالآخر على اختلافه، مدافعا عنه في إطار المبادئ الإنسانية التي لا تمليها الأقطاب الأحادية التي تصنع النعوت من منطلق ذرائعي يخدم غايات، كما يتضح في «الرجل ذو الصندل المطاطي «، أو في « فلسطين المخدوعة «. لكن انفتاحه، من حيث النظرية والممارسة، لم يحجب عنه رؤية ذاته، كمقوّم لقبول الآخر في أطر لا تسعى إلى ردم الذات بحثا عن مصالحة أحادية. كان معجبا بالفرنسية، ورافضا لها: «أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين إني لست فرنسيا «، متسامحا مع الشعوب، ورافضا سياسة القادة وبعض النخب، قارئا للأفكار والأيديولوجيات والتنظيمات، داعيا إلى التآخي. لم يكن كاتب ياسين مع فكرة التجاوز المبني على النسيان، أو على عولمة الفكر الشمولي. ثمة في نصوصه وتصريحاته ما يشبه المفارقات، لكنها سرعان ما تجد مبرراتها في شخصية الكاتب ذات البعد المركب: هو البربري الذي كتب بالفرنسية، ثم بالعامية، وعاش في وطن تشكل من العرب والأمازيغ، وقرأ عن عدة غزوات. كما زار بقاع العالم وعرف المجتمعات والفقراء والرؤساء، ثمّ جسد ذلك وفق منظوره، محاولا تجاوز الهوة القائمة بين الهويات. لكنّ هذه الرؤية المنفتحة على الأفكار تظل خاضعة لشروط: التنازلات المتبادلة، مع تجاوز هيمنة القطب الواحد، خاصة إذا كان يمثل محورا يكرّس الشرّ المبطن بخطاب إنساني. كما نستنتج من رسالته إلى الرئيس الأمريكي، أو من الكلام الذي وجهه إلى الرئيس الفرنسي أثناء استلامه جائزة الأكاديمية الفرنسية، أو من مسرحية حرب الألفي سنة، وغيرها من المسرحيات التي تصب نزعة قبول الآخر والدفاع عن حقه في الاختلاف.بقيت أغلب مسرحيات كاتب ياسين قابلة لقراءات أكثر موضوعية، غير تلك التي تمّ تسويقها في المقاهي التي أخرجته من حقيقته إلى حقائق لا تعكس مواقفه المتسامحة على عدة أصعدة: اللسان، القومية، الموروث، الذاكرة، التنوع، الاختلاف. ذلك أنّ كثيرا مما قيل لا مصداقية له أو لانبنائه على سند مريب. هكذا تمّ تأويل مسرحياته وفقا لنزعات تخدم نعرات، ومن ذلك القول بانتصاره للإلحاد وللشيوعية وللعنصر البربري والموروث الواحدي، على حساب الأديان والقوميات. لقد كانت فترة السبعينيات فترة تصادم، لذلك استغلّ كاتب ياسين من كافة الأطراف وفق مآربها. محمد خذ حقيبتك: عندما عرض المسرحية في فرنسا سنة 1976، استقبلت بشكلين متضادين في الأوساط الجزائرية. كان الشيوعيون يعتقدون أنها نصرة لهم وفتح من الفتوحات التي تساعدهم في كسب معركتهم. ما يعني أن كاتب ياسين أعلن كراهيته للمسلمين. في حين اعتقدت الأحزاب الإسلاموية أن المؤلف ظهر على الوجه الذي كان يسوّقه اليساريون والعلمانيون. وقد منع عرض المسرحية في بعض الجهات التي يسيطر عليها الإسلامويون (الحراش العاصمة)، قسنطينة. كما أدانها الداعية محمد الغزالي (كان يلقي دروسا بجامعة الأمير عبد القادر بدعوة من الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد). في حين قال الدكتور محمد علي الفرا، دون ان يقرأها: « ففي روايته الشهيرة حرب الألفي عام قال عن النبي صلى الله عليه وسلم يا محمد خذ حقيبتك. وقد صرح لمجلة جون أفريك قائلا: كما ثرت ضد الجزائر الفرنسية أثور اليوم ضد جزائر إسلامية، إنهم يكبلون شعبنا بواسطة الدين والله. أنا لست عربيا، ولا مسلما، أنا جزائري.» وأمّا القيادي في جماعة الشرق الإسلامية (عز الدين جرافة، الذي سيكون له تأثير كبير في التسعينيات)، فرأى أن المسرحية المسيئة للإسلام والرسول (صلعم) ألهبت فتيل الصحوة الإسلامية، ثمّ بدأت مطاردة الشيوعيين في الشرق والغرب والوسط، وقد تطرقنا إلى المسألة في يومية صوت الأحرار الجزائرية. يقول محفوظ لقرون، صاحب الدور المحوري في المسرحية: «محمد خذ حقيبتك أثارت جدلا كبيرا بين رجالات الدين والسياسة والفكر الذين لم يكونوا يدركون تمام الإدراك ما كان يقوله ياسين، حتى وإن كان من البديع البسيط الناطق بلغة القوم الذين لا يقرأون «. كلّ ما قيل عن مسرحيات كاتب ياسين وعن نجمة لا يخرج عن هذا الإطار. لا يمكن أن يتدنى الفهم إلى هذا الحد الذي لا يجوز تسويغه سوى بالجهل العام الذي يبني على السماع. لقد كانت مسرحية محمد خذ حقيبتك، التي قمت بترجمتها لاحقا، نصرة للمهاجرين. نشير إلى أن قراءة مسرحية غبرة الفهامة ستكون مفيدة للكشف عن الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الذين لم يقرأوا، مؤسسين على التحريض. لقد كانت هذه المسرحية، رغم ما يبدو عليها من سخرية، إحدى المسرحيات التي تناولت الحضارة العربية الإسلامية، في جانبها المضيء. ما يحيل إلى نوع من المصالحة مع الذات، والتسامح مع الماضي. هناك تعليق مثير للروائي رشيد بوجدرة: «مشكلة كاتب ياسين أنه كان محاطا بأشخاص دون مستواه، والبعض استغل بساطته وتواضعه وخجله». حرب الألفي سنة: قرئت المسرحية تأسيسا على نتف ليست مؤهلة للإحاطة بالنص. هناك نوع من المصالحة مع التاريخ. لقد رغب الكاتب العودة في إلى الوراء، إلى العهود الوثنية والمسيحية والبربرية واليهودية والعربي. ربما كان يريد تقريب العناصر المختلفة كحقيقة تاريخية، أي إبراز المجاورات للتدليل على الانتماء المركب. ما فهمه بعض النقاد على أنه ضرب للإسلام. أمّا لجنة القراءة التي رفضت عرضها في التلفزيون فقد ركزت على عناصر باهتة، كما يشير إلى ذلك احميدة عياشي، وإذا كان التقرير صحيحا، فهو مدعاة للغرابة، ذلك أن الإشارات الواردة لا يمكن أن تكون السبب الحقيقي في منعها، من حيث إنّ تلك الجملة لا قيمة لها، كما أن العلاقة بين القبائل والشاوية، أو الأمازيغ هي واقع تاريخي. هذه القراءات من النوع الذي حاول تقنين النص وفق مقاصد نفعية. كما حدث لمسرحية الجثة المطوقة التي عرضت بشكل سري في بلجيكا نظرا لعدم قبول المسارح الفرنسية تقديمها. أمّا الحجة فكانت تتمثل في احتوائها على خطاب رافض للكولونيالية. كما أنّ الرجل ذو الصندل المطاطي تصب في الدلالة ذاتها، وهي إجابة ضمنية على المنع: معاداة الإمبريالية العالمية والحرب على الكمبودج، ومناصرة الحق. وقد تناول جزء منها معركة ديان بيان فو تحت قيادة الجنرال جياب، الذي ستكون له قصة مع الكاتب أثناء زيارته للجزائر. لقد قال سابقا «إن اللغة الفرنسية غنيمة حرب». إنه متسامح مع لغة المستعمر الذي هدّد الجزائريين في لغتهم ودينهم وهويتهم وكيانهم، لأنه ينظر إلى اللغة كإرث مشترك، لكنه، بالمقابل، ينقلب على هذه اللغة عندما تغدو وسيلة سياسية لطمس موروث الآخر، أو وسيلة للهيمنة على الشعوب، أو تكريسا للمدَّ الاستعماري.