عرف أسلافنا المكانة الريادية التي تحتلها الترجمة للنهوض بالشعوب والأمم وإقامة الحضارات والتواصل مع من سبقونا في مجال العلوم و الفنون، إذ تقول الأسطورة أنه كان لشعوب الأرض لغة واحدة، وبعد أن عاشوا في الأرض فسادا تحت حكم ملك جائر ببابل العراق، الذي أمر ببناء برج يستطيع من خلاله الصعود إلى السماء، فحل على البنائين سخط الرب، وبلبل الله ألسنتهم و جعل لكلّ واحد لغة تختلف عن لغة غيره، ممّا صعّب التواصل فيما بينهم، و توقفت عملية بناء البرج، و تشتّت شملهم. و من هنا بدأت عملية الترجمة، و أدرك الإنسان أن اللغة وسيلة أساسية للتواصل والتبادل مع غيره سواء كان ذلك في التعليم أو التجارة أو الاقتصاد و في جميع مجالات الحياة. اهتم القدامى بعملية الترجمة وحركتها، وأنشأوا لها دورا و مدارسا لتعليمها و ممارستها، وسهر عليها أفراد و جماعات ومسّت في بادئ الأمر النص الديني مثل سفر التكوين و العهد القديم، بحيث سعى أحبار اليهود وحاخاماتهم لنشر ديانتهم أيام حكم بطليموس فيلادلفيوس ملك مصر (277 ق.م)، ثم تناقلت بعد ذلك عند اليونانيون والرومان، ليمارسها العرب بعد ذلك في رحلات الصيف و الشتاء للتجارة وتبادل السلع مع الفرس والروم و الهنود، و في زمن الدولة الأموية تمّت ترجمة الدّواوين، واهتم بحركة الترجمة «الأمير خالد بن يزيد بن معاوية»، ثمّ عرفت أوجها في العصر العباسي، بعد أن أدرك العرب أنهم لا تقوم لهم حضارة على لغة غيرهم، فسعوا لترجمة علوم الطبّ و الفلك و الرياضيات والفلسفة و النقد، والشعر و الأدب و الفنون، عن اليونانية و الفارسية و الهندية و السريانية، فأجلُّوا مقام المترجم و بجّلوه خاصّة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد و ابنه المأمون الذي يروى أنه كان يمنح بعض المترجمين مثل «حنين بن اسحاق» ما يساوي وزن كتبه إلى العربية ذهبا، فأسّس المأمون بيت الحكمة في بغداد و جعله منبرا للترجمة و التّأليف و قبلة للعلماء آنذاك، ففي القرن 9م قام العرب بترجمة معظم مؤلفات أرسطو، و هناك مؤلفات كثيرة ترجمت عن اليونانية إلى العربية وضاع أصلها اليوناني فيما بعد، فأعيدت ترجمتها إلى اللغة اليونانية عن طريق العربية، أي أنها لو لم تترجم إلى اللغة العربية لضاعت تماما، وهو ما حصل لكتاب «كليلة و دمنة» الذي ترجمه بن المقفع من الفارسية القديمة، والذي كان يهدف من هذه الترجمة الاصلاح الاجتماعي والتوجيه السياسي والنصح الأخلاقي و تقديم النصيحة للخليفة المنصور للكف عن ظلم العباد، و حدث أن أعيدت ترجمة هذا الكتاب عن العربية،وهكذا بدأت الترجمة في العصر العباسي في النقل من العربية إلى اللغات الأخرى، و قد أشار بعض المستشرقون إلى دور العرب في نهضة الحضارة الأوروبية و إلى فضل علوم العرب على الغرب نذكر منهم «أديلارالباثي» (ت1150)، المفكر و الأديب الألماني «يوهان فولفغانغفون غوته» (ت1832) الذي استوحى الكثير من أدب و شعر العرب القدامى، و زيغريدهونكه (ت1999) صاحبة كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب». ثم بعد ذلك بقرون، وفي مصر تحديدا أيام حكم «محمد علي»، تأسست مدرسة الألسن سنة 1835 على شاكلة مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وتولّى الشيخ رفاعة الطهطاوي الإشراف عليها، فنشطت حركة الترجمة و ترجم ما يزيد عن 2000 كتاب في مختلف العلوم و الصناعات. و للترجمة تاريخ طويل عريض، يصعب تحديده و تدوينه في بضعة أسطر أو حتى آلاف الصفحات، سواء سبق ما ذكر أو لحقه، إلا أنّنا لا نستطيع انكار الدّور الأساسي الذي تؤديه الترجمة في تحصيل العلوم أو تعلّم اللغات، فإن عجزنا عن التأليف و الابداع و الاختراع و الابتكار، فلنترجم عن غيرنا، فحتى الترجمة الجيدة هي عملية تأليف و ابداع، و يقول ميخائيل نعيمة في هذا المنوال في كتابه «الغربال»:«الفقير يستعطي إذا لم يكن له من كدّ يمينه ما يسدّ به عوزه. و العطشان، إذا جفّ ماء بئره، يلجأ إلى بئر جاره ليروي ظمأه. و نحن فقراء و إن كنّا نتبجّح بالغنى و الوفرة. فلماذا لا نسدّ حاجاتنا من وفرة سوانا. وذاك مباح لنا؟ و آبارنا لا تروينا، فلماذا لا نرتوي من مناهل جيراننا، و هي ليست محرّمة علينا؟ نحن في دور من رقيّنا الأدبي و الاجتماعي قد تنبهت فيه حاجات روحيّة كثيرة لم نكن نشعر بها من قبل احتكاكنا الحديث بالغرب. و ليس عندنا من الأقلام و الأدمغة ما يفي بسدّ هذه الحاجات. فلنترجم! و لنجلّ مقام المترجم لأنّه واسطة تعارف بيننا و بين العائلة البشرية العظمى، و لأنّه بكشفه لنا أسرار عقول كبيرة و قلوب كبيرة تسترها عنّا غوامض اللغة، يرفعنا من محيط صغير محدود، نتمرّغ في حمأته، إلى محيط نرى منه العالم الأوسع، فنعيش بأفكار هذا العالم وآماله و أفراحه و أحزانه. فلنترجم.» فالمترجم جسر واصل بين الشعوب و الحضارات، و هو نافذة مفتوحة على الآخر نتطلّع منها على ما يحدث في العالم للانفتاح عليه و لمواكبة الركب الحضاري، أما آن الأوان لتنشيط حركة الترجمة و فتح مدارس و منابر لها لجمع الجهود ولمّ شتاتها و تشجيع العمل الجماعي، لما فيه من ربح للوقت و تبادل للأفكار و الآراء للوصول إلى ترجمات دقيقة و أمينة، و حبّذا لو يمسّ القدر الأكبر منها العلوم التي سبقنا فيها غيرنا، فليس هناك عيب إن نقلنا عن غيرنا، بل العار كلّه لو أسدلنا الستار على النافذة ولبثنا في كهفنا .