الحوار الخصب الذي دار في بيت الحكمة بين حضارات الشرق والغرب، شكَّل نموذجًا رائعًا ورمزًا حيًّا لما ينبغي أن يكون عليه حوار الحضارات في عصرنا. كان تأسيس بيت الحكمة في بغداد على أيدي العباسيين، حدثًا ثقافيًّا بالغ الأهمية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، إذ لم يكن مجرد مكتبة ومركز للترجمة والتأليف والمناظرة والنسخ فحسب، وإنما كان أيضًا (مسرحًا) للحوار بين حضارات الشرق والغرب آنذاك، ولا سيما الحضارة العربية الإسلامية والحضارات اليونانية (الإغريقية) والفارسية والسريانية والهندية. ويستهدف هذا المقال إلقاء بعض الضوء على ظهور بيت الحكمة، والدور الذي نهض به في الحوار بين تلك الحضارات. بيت الحكمة المقصود ب(بيت الحكمة) الدار أو البيت الذي استخدم لحفظ أو خزن الكتب بصفة عامة، وكتب (الحكمة) أي (الفلسفة) بصفة خاصة. وكان مصطلح (الفلسفة) يشمل -في ذلك العصر- عددًا من العلوم مثل: الرياضيات، والفلك، والفلسفة، والمنطق، والطب، والطبيعة، وغيرها. إنشاء بيت الحكمة يُجمع المؤرخون على أن الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 192ه/809م) هو الذي وضع النواة الأولى لبيت الحكمة في بغداد، حيث أسس ما عُرف باسم (خزانة الحكمة). كانت عبارة عن مكتبة تحتوي على بعض كتب الفلسفة اليونانية، التي كان قد جلبها الرشيد معه من بلاد الروم (البيزنطيين)، أثناء إحدى حملاته على مدن آسيا الصغرى مثل: أنقرة، وعمورية. وقد عهد الخليفة بترجمة هذه الكتب من اليونانية إلى العربية، إلى العالم المسيحي النسطوري: يحيى (يوحنا) بن ماسويه. كما اشتملت (خزانة الحكمة) هذه على بعض كتب التراث الفارسي، والتي عهد الرشيد بترجمتها من الفارسية إلى العربية، إلى الفضل بن نوبخت. بيت الحكمة في عهد الخليفة المأمون ولكن لم يبلغ بيت الحكمة ذروة نشاطه العلمي إلا في أيام الخليفة العباسي المأمون (ت 218ه/833م). فمن نافلة القول أن الخليفة المأمون كان يتميز بعقل مستنير وفكر حر وثقافة واسعة، ولهذا ما كاد يستقر في بغداد حتى أحدث تغييرًا كبيرًا في (الإستراتيجية) الثقافية للدولة العباسية، فلقد أدرك -من خلال تنشئته ودراسته من ناحية وعلاقته الوثيقة برجال العلم والأدب من عرب ومسلمين ونساطرة وفرس وهنود وصابئة من ناحية أخرى- أن بناء الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها بالتفاعل والحوار بينها وبين الحضارات الأخرى، والإفادة من كنوزها؛ لأن ما توصل إليه علماء تلك الحضارات من نتائج علمية هو ملك للبشرية جمعاء، بغضّ النظر عن عقائد وأجناس وألوان هؤلاء العلماء. الترجمة في عهد المأمون وانطلاقًا من هذه (العقيدة العلميَّة) فتح المأمون أبواب الترجمة إلى العربية على مصراعيها. حقيقة إن الترجمة من الحضارات الأخرى إلى العربية كانت قد بدأت في العصر الأموي، وذلك عندما ترجمت بعض كتب الكيمياء من اليونانية إلى العربية، بناء على طلب الأمير الأموي خالد بن يزيد، ولكن هذه الترجمات وغيرها كانت كلها بمبادرات فردية وتتسم بالعفويَّة، وتتعلق بميادين علمية محددة. أما في عهد المأمون، فقد غدت الترجمة سياسة أو (إستراتيجية) عامة للدولة العباسية، ولا ترتبط برغبة هذا الخليفة أو ذاك الأمير، كما أنها لم تعُدْ تتعلق بميدان دون آخر، وإنما أصبحت تشمل معظم العلوم والمعارف التي ازدهرت في الحضارات القديمة. وفي ضوء ذلك رأى المأمون أن (خزانة الحكمة) التي أسسها والده، لا يمكن لها النهوض بالمشروع الثقافي الكبير الذي يعتزم القيام به؛ ولهذا حوَّلها إلى (مؤسسة) علمية، عُرفت باسم بيت الحكمة، مهمته ليست خزن الكتب والترجمة والتأليف والنسخ فحسب، وإنما احتضان مسألة الحوار بين الحضارات وتبادل العلوم والآداب والفنون فيما بينها. بيت الحكمة وجمع تراث الإنسانية وبعد أن وصلت هذه المجموعات من التراث اليوناني إلى بيت الحكمة وتم تصنيفها وترتيبها وفقًا للأصول المرعية فيه، فتح المأمون أبواب العمل فيه لخيرة المترجمين والعلماء والأطباء والأدباء. وكان المعيار الرئيسي للعمل في هذه (المؤسسة العلمية) هو الكفاءة العلمية، وكان العلماء الأوفر حظًّا فيها -ماديًّا ومعنويًّا- هم الذين يتقنون لغة أجنبية أو أكثر، والذين ذاع صيتهم في ميدان من الميادين العلمية، والذين اشتهروا بالدقة والنزاهة العلمية. ومن المترجمين والعلماء الذين عملوا في بيت الحكمة، نذكر: يحيى بن ماسوسة، والحجاج بن مطر، وحنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وحبيش الأعسم، وقسطا بن لوقا وغيرهم. كان هؤلاء جميعًا من المسيحيين، وترجموا في بيت الحكمة من اليونانية والسريانية إلى العربية. ومن العلماء المسلمين الفرس الذين عملوا في بيت الحكمة، وترجموا من الفارسية إلى العربية، نذكر: الفضل بن نوبخت، وسهل بن هارون. ومن العلماء الصابئة نذكر ثابت بن قرة، الذي ترجم الكثير من كتب الفلك والهندسة من اليونانية إلى العربية. ومن العلماء العرب الذين عملوا في بيت الحكمة نذكر الفيلسوف الكبير الكندي، الذي كان عالمًا كبيرًا بالرياضيات والكيمياء والموسيقى، وقام بنشاط علمي كبير وبخاصة فيما يتعلق بوضع المصطلح العربي الملائم للأصل اليوناني، وذلك بالتعاون مع كبار المترجمين العاملين في بيت الحكمة. كما تولى عدد من العلماء والمترجمين رئاسة بيت الحكمة أمثال العالم الرياضي محمد بن موسى الخوارزمي في أيام الخليفة المأمون، وحنين بن إسحاق أيام الخليفة المتوكل (247ه/861م). وقد أنفقت الدولة العباسية أموالاً طائلة على بيت الحكمة ونشاطاته العلمية. فقد كان عليها -مثلاً- أن تدفع مبالغ ضخمة للحصول على المخطوطات ونقلها، ومبالغ أخرى للمترجمين والعلماء والإداريين وأعمال النسخ والرصد والصيانة... إلخ. وتؤكد المصادر أن المأمون كان يعطي بعض المترجمين أمثال حنين بن إسحاق، وزن الكتاب الذي يترجمه ذهبًا. لم يكتف المترجمون والعلماء العاملون في بيت الحكمة بترجمة الكتب من لغاتها الأصلية إلى العربية فحسب، وإنما قاموا بتفسير الكثير منها ونقدها وتصحيحها. بل إن بعض الكتب كان يترجم ويشرح ويصحح أكثر من مرة، ومن طرف أكثر من مترجم وعالم، ولا سيما إذا كانت الترجمة الأولى لا تتسم بالدقة والوضوح والفصاحة. فكتاب (أصول الهندسة) للعالم اليوناني إقليدس، وكتاب (المجسطي) أي (الكتاب الأعظم) للعالم اليوناني بطليموس، وقد تُرجما وفُسِّرا ونُقِّحا أكثر من مرة؛ توخيًا للدقة والأمانة العلمية. بيت الحكمة .. حوار للحضارات والواقع أن أعظم ما تمّ في بيت الحكمة هو الحوار بين الحضارات، التي التقت على ساحته، وبخاصة الحضارات العربية الإسلامية واليونانية والفارسية والسريانية والهندية. وعلى الرغم من اختلاف هذه الحضارات من حيث أسسها وخصائصها ومظاهرها وسياقها التاريخي، فإنّها تفاعلت فيما بينها وتبادلت العلوم والآداب والمفاهيم والمناهج، لا سيما أنها -في نهاية المطاف- حصيلة جهود وإبداعات تراكمت عبر الزمن، وشكلت تراثًا للإنسانية جمعاء. بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية وسنكتفي في مقالنا هذا بالإشارة إلى الحوار الذي جرى في بيت الحكمة بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية القديمة؛ لأنّ هذه الأخيرة كانت أكثر الحضارات الأجنبية التي قُدّر لها أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية من ناحية، وكانت الأساس الرئيسي الذي قامت عليه النهضة الأوربية في العصر الحديث من ناحية أخرى. وينبغي أن نشير بداية إلى أنه كان من الصعوبة لهذا الحوار بين الحضارات أن ينجح ويؤدي رسالته الإنسانية، لولا الحرية التي توافرت لرجال العلم والفكر في بيت الحكمة، ولولا سياسة التسامح التي انتهجتها الدولة العباسية آنذاك تجاه الآخرين وحضاراتهم وعقائدهم، بحيث لم يمنع أحد من أهل العلم -على اختلاف مللهم ونحلهم- من المناظرة في أعقد المسائل، ولم تحاول أي ثقافة احتواء الأخرى، بل لم تحاول أي قوة سياسية أن تفرض ثقافة بعينها على الثقافات الأخرى. وهذا ما جعل الحوار بين الحضارات في بيت الحكمة يتسم بالهدوء والعقلانية والموضوعية واحترام الآخر، وهذا ما ساعد الحضارات جميعًا على أن تفيد من هذا الحوار، وتتبادل العلوم والآداب، والتي شكلت -في النهاية- رصيدًا ثريًّا للحضارة الإنسانية. أما بالنسبة إلى ما أفادته الحضارة العربية الإسلامية من حوارها مع الحضارة اليونانية القديمة، فقد تجلى في الكثير من الميادين العلمية والفلسفية؛ ففي ميدان الطب -مثلاً- أفادت من مؤلفات أبقراط وجالينوس، وفي ميدان الفلسفة أفادت من مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وفي ميدان العلوم والرياضيات والهندسة أفادت من مؤلفات: أرخميدس وإقليدس وفيثاغورس وأبولونيوس وغيرهم، وفي ميدان الفلك والجغرافيا فقد أفادت مما كتبه بطليموس. أما في ميدان اللغة، فقد تم إغناء اللغة العربية بالمصطلح العلمي من خلال المعاناة الحقيقية للترجمة في بيت الحكمة، حيث تم البحث عن بدائله باللغة العربية؛ لأنه حتى ذلك الوقت -تقريبًا- لم تكن اللغة العربية قد كوّنت لنفسها مصطلحات علمية تكفي للتعبير عن كل التراث العلمي والفلسفي للحضارة اليونانية. لا شك في أن الحوار بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية كان عاملاً مهمًّا في انتقال العرب والمسلمين إلى مرحلة النبوغ والإبداع، إذ لم يثبت العلماء العرب والمسلمون قدرتهم على استيعاب التراث اليوناني فحسب، وإنما على نقده وتجاوزه من ناحية، وعلى استخدامه في تلبية حاجات مجتمعهم الفكرية منها والمادية من ناحية أخرى. أما ما أفادته الحضارة اليونانية القديمة (وبالتالي الحضارة الأوربية الحديثة) من الحوار مع الحضارة العربية الإسلامية في بيت الحكمة، فقد تجلّى في الكثير من الميادين، وفي مقدمتها إنقاذ العرب والمسلمين للتراث اليوناني القديم من الفناء والأسر والاحتقار الذي كان يعانيه في الغرب الأوربي والعالم البيزنطي على السواء. فمن المعروف أن الكنيسة في الغرب قد حاربت التراث اليوناني القديم حربًا شعواء، ونظرت إليه على أنه تراث ضار بالعقيدة المسيحية لارتباطه بالوثنية، وحرّمت على المسيحيين الاطلاع عليه باعتباره من عمل الشيطان، وبالتالي تعرضت مؤلفات معظم الفلاسفة والأدباء اليونان للإهمال والازدراء. كما قام الإمبراطور البيزنطي جستنيان (ت 565م) بإغلاق مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529م. ولقد ظل هذا الموقف المعادي للتراث اليوناني قرونًا طويلة، والدليل على ذلك أنه عندما بعث الخليفة المأمون إلى إمبراطور الروم يطلب منه كتب الفلسفة اليونانية، تردَّد الإمبراطور في تلبية طلبه، فهرع الرهبان إليه يحثونه على تلبية رغبة الخليفة، وقالوا له: (إن هذه الكتب لم تدخل بلدًا أو دولة إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها...)، وعندئذٍ أسرع الإمبراطور في إرسال تلك الكتب. ولهذا كله لا نبالغ إذا قلنا: إن جلب التراث اليوناني إلى بيت الحكمة وترجمته إلى العربية هو إنقاذ له من الفناء. والدليل على ذلك أنه عندما بدأت أوربا تتلمّس بدايات نهضتها الحديثة، والتي قامت على أساس إحياء التراث اليوناني القديم، لم تجد في حوزتها سوى الترجمة العربية لهذا التراث؛ لأن معظم أصوله اليونانية الأولى كانت قد فُقدت. ولهذا قامت بترجمته عبر صقلية والأندلس خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، من العربية إلى اللاتينية. ولكن لم يقتصر ما أفادته الحضارة اليونانية في حوارها مع الحضارة العربية الإسلامية على مسألة إنقاذ التراث اليوناني وحمايته وترجمته فحسب، وإنما أفادت أيضًا مما قام به العلماء العرب والمسلمون من شرح ونقد لهذا التراث، والذي شكَّل بدوره إضافة معرفية حقيقية.